الإحزانُ المستساغُ ، والذي لا يُساغ


جَرَّنِي حديثُ النفْسِ إلى التفكُّرِ في إحزانِ الناسِ متى يكونُ سائغًا ومتى يُستَهجَنُ؟! .. نعم ، لا تتعجب ؛ فلَرُبّما كان بعضُ الإحزانِ سائغًا أخلاقِيًّا مُثابًا عليه شَرعا ، ولَرُبَّما كان قبيحًا غيرَ لائق ..

وكانَ أوَّلُ الخاطرِ في أَثرِ الكلمة المنطوقةِ في الناس ، ثم استرسلَ الخاطرُ حتى وصَلَ إلى هذا البحث الظريف ..

وأوَّلُ ما نَعلمُه بديهةً : قُبح إحزانِ الناسِ لغيرِ سبب ، وذلك من وجهين ،

الأول: أنّ إسعادَ الناسِ خيرٌ وجَمالٌ ؛ فكان ضدُّه شرًّا وقُبحًا.

الثاني: أن الإحزانَ تكديرُ صفْوٍ وإيلامٌ وأَذِيّة ، وهذه أخلاقٌ مستقبحةٌ فطرةً ، مذمومةٌ شرعا إذا كانت بغيرِ سبب ..

ثم إذا علمنا أن الإحزانَ بلا سببٍ داعٍ : قبيحٌ ؛ علِمنا ضرورةً أن الإحزانَ بقصْدِ الإيذاءِ ودافعِ الشرِّ أقبحُ وأشدُّ ولا يُستساغُ أبدًا ..
والفرقُ بين الأول والآخر : أنّ الأولَ لا يقصِدُ الإيذاءَ ولا يَتَوَسَّلُ إليه بالوسائلِ التي تُبلِّغُه مرادَه ؛ ولكنه مجرَّدُ مُولَعٍ بنقلِ الكلامِ أو بالتكلُّمِ بالمُحزِناتِ لغيرِ غرَضٍ ؛ فلا تعنيه نتائجُ كلامِه ولا آثارُه ، بل أقصىٰ مرادِه أن يتكلم ويتكلم! ؛ فلا يَحملِ سوى شهوةٍ في الكلامِ مع طبيعةٍ فاسدةٍ في الذوقِ ، دَنِيَّةِ في التعقل ، وعادةٍ سيئة ..

وأما الآخر فإن غايتَه الإيذاءُ والإحزان ؛ فكلامُه وسيلةٌ يَمتطِيها لِبُلوغِ غايتِه من الإحزانِ والإيذاء ، فإذا لم يجد أثرًا لكلامِه ؛ زادَ في كلامِه ونَوَّعَ وسائلَه حتى يُصِيبَ ضحيَّتَه ؛ فهذا لا يكف حتى يرى أثرَ كلامِه ، والأولُ يكُفُّ متى ما انقضتْ شهوتُه الكلاميةُ دون النظرِ إلى شيء آخَر ؛ فلا يعنيه أثرُ كلامِه في مُحَدَّثِه! ..
فهذان النوعان من الإحزانِ مذمومانِ قطعا ..

بقي عندنا صنفٌ ثالثٌ مغايِرٌ لهذين ؛ وهو من يتكلم بما يُحزِنُ ويؤذي لمصلحة المُكلَّمِ ؛ فالإحزانُ هنا غيرُ مرادٍ أصالةً ، وإن كان يدري صاحبُه باحتماليةِ حصولِه ؛ فهو يُحزِنُ صاحبَه بكلامِه ولكن لغرَضٍ صحيح ، وهو الارتقاءُ بصاحبِه والنهوضُ بمصلحته ، ولا يمكنُ الارتقاءُ به إلا بشيءٍ من الإحزانِ : بنهيهِ عن بعض محبوباتِه ومتعلَّقاتِه ، وأمرِه بما يَشُقُّ عليه أحيانا ؛ فأنت ترى راكبَ المنكَراتِ -مثلًا- الغارِقَ في شهواتِه محِبًّا لِما يركبُه يَستَلِذُّ به ، ومُناصَحتُه فيه تصرفِه وتعكّرُ عليه لذائذَه وشهواتِه ؛ فإذا سمعَ النصيحةَ ضاقتْ نفْسُه ، وتكدَّرَ خاطرُه .. وما هذا الإحزانُ العَرَضيُّ إلا في صالِحِه وخيرِه ، وقِسْ على هذا جميعَ المصالح الدينية والدنيوية ..

إذن ؛ فهذا نوعُ إحزانٍ مستساغٌ لا ينافي الأخلاقيةَ ، بل هو عملٌ أخلاقيٌّ جليل ؛ لأن المرادَ بهذا الإحزانِ العارِضِ دَفْعُ حزنٍ أو مَضَرَّةٍ أكبرَ مِنه ، أو دفعُ حزنٍ أبديٍّ يؤديه إليه عملُه لو استرسلَ فيه ؛ فكان هذا خيرًا وجَمالًا لا يُنكِرُ إلى مُكابِرٌ ، والله أعلم .. وإلى لقاءٍ أيها الفضلاء ..

تعليقات

المشاركات الشائعة