بين العُزلةِ والخُلطة ..


يجدُ المرءُ نفسَه كارهةً لمخالطةِ الناسِ أحيانًا ، ويجدها مندفعةً إليهم أحيانًا ؛ فهل الإنسانُ الذي يحبُّ اعتزالَ الناسِ هو محبٌّ للعزلة فقط ، أم هو لا يجد مجتمعًا محبوبًا إلى قلبِه ؛ فيؤْثِر لذلك اجتنابَ هذا المجتمع الذي يعايشُه ؟! ، وهل الذي يحب العزلةَ ويحب الخُلطة في آنٍ واحدٍ يُعدُّ متناقِضًا ؟! ..

لا أدري ألِهذا الكلامِ فائدةٌ أم لا، ولكنه أمرٌ عايشتُه فأثارَ فيَّ فضولَ الخوضِ فيه ؛ فأقول:

كُرهُ العُزلةِ والمُخالَطةِ في آنٍ واحدٍ ليس من بابِ اجتماعِ النقيضين ، ولا يجتمع كُرهُ هذين الأمرين معًا إلا في نفسٍ لا تَكرَهُ المُخالَطةِ حقيقةً ، وإنما تكرَهُ واقعَ المُخالطةِ الحالِيَّ ؛ فهي لا ترى مَن حولَها مِن الناسِ أهلًا للمخالَطةِ ، ولا تَطيبُ بهم ولا تأنسُ ؛ لاختلاف حالِهم عما تهواهُ وتراهُ لائقًا ، فلو وجَدَتْ واقعَ الناسِ يَسُرُّها ؛ لَما كَرِهتْ المخالطةَ قَطُّ ؛ فهي نفسٌ تُحِبُ حقيقةَ الخُلْطةِ ، وتَكرهُ حَقيقةَ العُزلةِ وتَضيقُ بها ذَرْعًا ..

وأما النفْسُ التي تَكرهُ نَفْسَ المخالَطةِ بصرف النظر عن الواقع والحال ؛ فلا يمكن أن يَجتمع فيها الكرهان -كرهُ العزلة وكره الخُلطة- معًا ؛ بل هي تُحِبُّ العُزلةَ وتَنشرِحُ بها ولا بُدَّ ، وتكره الخُلطةَ أبدًا ..

وأقولُ -مِن بابِ حُبِّ التَّكَثُّر في القولِ-: قد يَجِدُ مَن يُحِبُّ نفْسَ الخُلْطةِ ويَكرَهُ واقِعَها الحالي ، قد يجد لَذَّةً في خَلوَتِه بالكتبِ ؛ فخلوةُ المَرءِ بالكتبُ ليست بعُزْلةٍ حقيقيةٍ ؛ وإنما هي مخالَطةُ أقوامٍ تأنسُ بهم النفوسُ وتستمتعُ بأقاويلهم وعلومِهم وتتنوعُ أحاديثُهم بين تقريرٍ وسِجالٍ ووعظٍ وفوائد وتأملات وطرائف وشعر ونثر ... إلخ ؛ فهي نفسٌ تهجرُ الناسَ لتَصحَبَ أرواحَ أُناسٍ تأنَسُ بحديثِهم الذي خلَّفُوه في كتبِهم! .. وما هذه إلا أحاديثُ بيني وبين نفسي ؛ ففيها من التسامُحِ في التَّثَبُّتِ في الحقائق ما فيه ا؛ فأقِلُّوا اللومَ رضي الله عنكم ..

تعليقات

المشاركات الشائعة