دِقَّةُ العلماءِ ، وجمالُ الحياء! ..



الحمد لله رب العالمين ، وبعد:

فإنّي رجلٌ إذا ضاقتْ عليَّ نفْسِي طالَ في الكتابةِ نَفَسِي ، وإذا استفززتُ في مسألةٍ تَشَعَّبَ فيها نظري وطال جدًّا ، فهذه مسألةٌ سأعرِضُها حابسًا نفْسي عن التطويلِ الممل ؛ فاصبروا عليَّ قليلًا ؛ فإنّ آخرَ  هذه الكتابةِ أحلى مِن أوَّلِها ؛ فلا تستعجلوا ..

وبعد: فقد استدرك مستدركون على قولةِ الغزالي -رحمه الله- التي نشرتُها: " الأليَق بمحاسن العادات استحياءُ النساء عن مباشرة العقد ؛ لأن ذلك يشعر بتَوَقان نفسِها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة ؛ ففوّض الشرعُ ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج " ..

ولي مع استدراكهم وقفات ؛

الأولى: قد يُدلىٰ الاستدراكُ مِن غيرِ أهله غيرِ أولِي الحكمة والروِيّة والنظر ، ولكن استدراكهم يفتح للناظِرِين أبوابًا مِن البحث كانوا عنها غافلين ؛ فالاستدراكات المُتعجّلةُ التي قد لا يكون لها وزنٌ تُنبِّه قارئها على دقائق ولطائف في كلامِ العلماءِ المستَدرَك عليهم لم يفطن لها قبل ذاك ..

وكلامُ القدماء مِن الأئمة العلماءِ لا يَشُوبُه الحشْوُ ولا يتخللُه اللغو ؛ ففي كلِّ حرفٍ منه وكلمةٍ وعبارة معنى مرادٌ مقصودٌ إلا ما ندر .. ولكننا في زمنٍ كثُرَ فيه حشوُ الكلامِ ولغوُه ؛ فصِرنا نحمِلُ كلامَ القدماءِ مِن العلماءِ على كلامِنا ؛ فنحسبُ أن في عباراتهم حشوًا كحشوِنا ولغوًا كلَغوِنا ، ومَن تأمّل كلامَ الأوّلِين حقَّ التأمل ؛ أيقنَ أنْ كلامَهم محسوبٌ موزونٌ في معظمِه ؛ فمن أغرتْه نفسُه الأمّارةُ بالسوء - بعد علمه بهذا - وحمَلَته على الاستدراك على كلام الأعلام ؛ فلْيحسب قبل ذلك لعبارتهم ألفَ حسابٍ ، وليقف متأمِّلًا مستنطقًا كلَّ لفظةٍ ؛ حتى إذا سَلَّ عليهم قلمَه لم يُخطِئ عليهم في معنًى لم يريدوه ، ولم ينسب إليهم قُصورًا قد علِموه فاجتنبوه ..

الثانية: اِعلم أن الكلام المثْبَتَ في كتب الأعلام قد اطلع عليه وحفظه وأنضجَه مَن قبلك من العلماء والنُّظّار من أهل المعرفة ؛ فإذا سَوّلت لك نفسُك طعنًا في كلام السابقين ؛ فانظر وابحث هل سبقك في استدراكك مِن أحدٍ ؛ فإن وجدتَ مستدرِكًا قبْلك ؛ هانَ الخطبُ شيئًا إذا كان نقدُك قائمًا على أصول العلم والمعرفة ، وإلّا تجد قبْلَك ناقدًا ؛ فلا تغترر بنفسك لا سيّما إن كنت لا تحمل من سلاح العلم واللغة ما يؤهلك لمنازلة القدماء في فهمهم ولغتهم ؛ لذا حقّ عليك الاحتراز التامُّ ، وإلا أزرَيتَ بنفسك عند الفضلاء ، وصرتَ أضحوكةً بين العقلاء ، وسقط بعد ذلك الاعتدادُ برأيك أبدًا ..

الثالثة: أعود إلى كلام الغزالي -رحمه الله- ؛ فأقول: رأى الغزالي -رحمه الله- أنّ مِن الحِكَم في إنابة الولي عن المرأة بالتزويج : حمْلَ الخلقِ على أحسن المناهج ؛ وذلك أنّ مِن الخصال المحمودة كمالَ الحياء ، وهو من محاسن النساء ، والأليَقُ بعادتهن وطباعهن ، واجتنابُ المرأةِ مباشرةَ عقْدِ النكاحِ أكملُ في حيائها ، قال الغزالي: " لأن ذلك [أي مباشرتها عقد النكاح] يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ، ولا يليق ذلك بالمروءة " ، ولا شك أن المرأةَ كلّما اجتنَبَتْ مجالسَ الرجال كان أقربَ لحيائها ؛ لأن اعتيادَ الاختلاطِ ينزِعُ الحياءَ ويُضعِفُه ، وإذا وقفنا على عبارته البديعة ومعانيها الرفيعة ؛ استبانت لنا دقةُ هذا الرجل ولُطفُ عبارته التي تأخُذُك إلى بحرٍ من المعرفةِ دقيقٍ ؛ فقولُه: " يُشعِر بتوقان نفسها إلى الرجال " يعني أنّ مباشرَتها العقدَ قد يُحمَلُ مِن غَيرِها على تَشَوُّفها للرجال واستعجالِها إلى حاجتها منهم ، وهذه خصلةٌ تنافي المروءةَ والكمال ؛ فمعنى قوله: " يُشعِر " أنه قد لا تكون المرأةُ في باطنها متشوّفةً ولا توّاقةً إلى الرجال - وإنْ كان ذلك فيها فطرة - ، ولكنّ مباشَرَتها العقدَ مُشعِرٌ بذلك عند الناظرِ ؛ فكان صرفُها عنه وإنابةُ الوليِّ الذَكَرِ : أليَقَ ؛ حتى لا يُظَنَّ بها قلّةُ الحياء التي هي نقصٌ في النساء وخلافُ فطرتِهن وأنوثتهن التي جُبِلنَ عليها ؛ فهنا يستبين لك هذا المَلحظُ الدقيقُ ؛ وهو أنّ الشرعَ يصرِفُ الناسَ عن كلِّ ما قد يُحمَلُ منهم على النقصِ والسوءِ ، وإن لم يكن ذلك الأمرُ في حقيقته نقصًا ولا سوءًا .. ويَسُدُّ الشرعُ بابَ نقْصِ الأخلاقِ بتشريعٍ عامٍّ يَصونُ فيه أهلَ الفضيلةِ مِن سوءِ ظنونِ الناسِ ، ويُكمِّلُ به أهلَ النقيصةِ ؛ فيَرفعُهم إلى أكمل الأخلاقِ ..

وإذا تأمّلنا أيضا ؛ وجدنا أن في البشرِ طباعًا وغرائزَ لا يُلامون عليها ، ولكن قد يُلامُون على إبدائها وإعلانها ؛ فهي عاديةٌ مع الإضمار ، مستقبحةٌ تُجافي المروءةَ مع الإظهار ، وهذا بابٌ كاملٌ يليقُ به بحثٌ مستقِلٌّ كلُّه قد استللتُه مِن كلمة الغزالي " يُشعِرُ "! ..

ولمّا كان الشيءُ بالشيءِ يُذكرُ ، والشبيهُ إلى شبيهه يَنْجَرُّ أحببتُ أنْ أعرضَ قصةَ كمالِ الحياءِ في أمرِ تَوَقانِ النساءِ إلى الرجال مِن قصة زواج كليمِ اللهِ موسى عليه سلامُ اللهِ التي حكاها اللهُ عز وجلّ في كتابه العظيم ؛ فهاتان الفتاتان اللَّتَان أعانهما موسى عليه السلامُ قد أُعجِبَتْ به إحداهما بعد أن رأتْ إعانته ، وعرفت أمانتَه ؛ فأرادتْه لنفسِها ؛فانطلقت إلى أبيها الرجلِ الصالحِ تسألُه أنْ يستأجرَ موسى عليه سلام الله لقوّته وأمانتِه ؛ ولم تصرّح بذكرِ زواجٍ ولا حامتْ حولَ هذا ؛ لكمال حيائها وفطرتها الأنثوية ؛ ففطن الشيخُ الجليل إلى ما وقعَ في نفس ابنتِه مِن محبةٍ وتوَقانٍ إلى موسى عليه السلام ؛ فأرسلها إليه ليجزيه أجرَ سقْيِه لهم في ظاهرِ الأمرِ ، وهو يريدُ تزويجها إياه ، ولم يُشعِرِ ابنتَه أنه فطِن لأمرها ؛ وذلك لكمال مروءته وحرصه على رفْعِ مقامِ ابنته كما ارتفعتْ بنفسها ؛ فانطلقت إلى موسى على الصفة الجميلة التي ذكرها اللهُ تمشي على استحياء ، أو تقول على استحياء - على الاختلاف في الوقف والابتداء -: ﴿إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا﴾ ، وما أحسب إلا أن موسى عليه السلام فطِنَ لأمرها ؛ لأنه اختارها زوجةً بعدَ أنْ خيَّرَه أبوها بين ابنتيه ، وقد رأى من حيائها ما رأى ، والحياءُ محبوبٌ جذّابٌ ، فلما جاءه قال الأبُ: ﴿إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ...﴾ ؛ فلم يُعَيِّنِ ابنتَه التي تريدُه وهو يدري بحالها ، والظنُّ أنّه ما أرسلها إلى موسى إلا لِيفطن موسى لحالها مع حرصه على كمالها في أخلاقها ، وقد كان ذلك ؛ فاختارها موسى فجمعهما اللهُ على ما أحبّتْ مع حفاظها على كمال الحياء والمروءة ..

فانظر إلى كمال الأدب والترَفُّعِ وحسنِ الإلماحةِ والإشارة التي لا تخرم المروءةَ ولا تُنقص الأخلاق وهي مع ذلك تؤتِي أكُلَها وحاجتها ؛ فلكلِّ مَطلَبٍ مباحٍ طريقٌ إليه رفيعٌ يُصدَرُ منه دون ابتذالِ نفْسٍ ودونَ هجرٍ لكمال الأخلاق والخصال ؛ فهذه المرأة الصالحةُ الحيِيَّةُ ما باشرَتْ ذكرَ مرادِها من الرجالِ عندهم ، بل ولا عند وليِّها ؛ ولكنها عرَّضَتْ تعريضًا لطيفا ؛ فنَزَّهها والدُها -إذ فطن لباطن نفْسِها- عن أنْ يَخدِشَ كمالَ حيائها بعرْضِه الذي يبدو منه عدمُ تعيينها بالزواج ؛ فما أشرفَ هذه النفوسِ وأجملَها وأكملها ، وإنّ العجبَ من حُسن هذا المعنى لا ينقضي في بالي أبدًا ، وإني لأرجو أخيرًا أن أكون على صوابٍ في سردِ هذه الحكاية ، وأنْ لا أكون قد زدتُ فيها من وهمي شيئًا ..

هذا وقد سكَتُّ عن أشياءَ كنتُ أحبُّ قولَها خشيةَ السآمة ، وإلى لقاء ..

تعليقات

المشاركات الشائعة