فكُّ الارتباط بين المذاهب الأربعة والعقيدة الأشعرية

الحمد لله رب العالمين ، هدى الناسَ بكتابه ، ونوَّرَهم بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده ، أما بعد:

فإن أكثرَ الأشعرية اليومَ يُوهِمون الناسَ بارتباط العقيدة الأشعرية بالمذاهب المتبوعة ، مذهبِ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله تعالى- ، ويُصَوِّرون أنّ من ترك العقيدة الأشعرية فقد خالفَ سبيلَ الأئمة ، وهذا الربطُ ألجأهم إليه بُعْدُ اعتقادِهم عن فهْمِ عامة الناس ، وتعسُّرُه عليهم ؛ لأن اعتقادَهم لا يمكن فهمُه إلا بطَريق المنطق وعلم الكلام -العِلمين المذمومين عند السلف إجمالا- ، ولا يُستطاعُ شرحُه بكلام النبيين وأتباعهم ؛ فاضطروا إلى ربطِ اعتقادهم بمن وَثِقَ الناسُ بإمامتهم ، واستقرت مذاهبهم على اتّباعهم والاقتداء بهم ؛ حتى يتقبله الناسُ وإنْ لم يفهموه حقًّا ، على أنّ الأئمةَ مالكًا والشافعي وأحمد من أشد الناس على المتكلمين ، وأكثرِهم تنفيرًا عنهم ، وأصرحِهم كلامًا في تقرير عقائد السلف المناقِضةِ لعقائد الأشعرية ، وهذا ظاهرٌ لمن طالع كتبَهم ، وتشبَّعَ بالنظر في سِيَرِهم ، وإنّ كلامَ النبيين الذي هو أهدى كلاما ، وأوضحُ بيانًا ، وأنفعه للناس أجمعين : لا ترى فيه من كلامِ هؤلاء الأشعرية شيئا ، ولا يمكن لبشرٍ إذا قرأ كتابَ اللهِ وكلامَ أنبيائه وأخبار أصحابهم أن يخرجَ بعقيدة الأشاعرة ما لم يَخُضْ في علمِ الكلام والمنطق الذي هو أثرٌ مِن آثار اليونان التي انتقلت إلى المسلمين عن طريق الترجمة ..

ثم لِحاجةِ الناس إلى الوقوف على ما أقوله مِن عدم ارتباط التمذهب باعتقاد الأشعرية ، وضرورةِ التفطُّن إلى ذلك حتى يُحترز من الاغترار بمقُولاتهم : لا بد مِن نقْلِ هذا عن كبارٍ من أئمة المذاهب الذي يُفارقون اعتقاد الأشاعرة ، على أنّ الأئمة أنفسهم لم يكونوا على مثل هذه العقيدة وما نطقوا بها ، بل صرحوا بضدها ..

فمما يخالف اعتقادَ الأشعري عند أئمة أهل الحديث كتابُ الإمام البخاري -رحمه الله تـ256- (خلق أفعال العباد) وقد ملأه بالرد على من ينكر علوَّ الله على عرشه فوقَ خلقه ، وبتضليل من يقول بهذا القول ، والأشاعرة طائفة ممن ينكر علو الله تعالى على عرشه كالمعتزلة ..

وكذلك الإمام عثمان بن سعيد الدارمي -رحمه الله تـ 280- في كتابه (الرد على بشر المريسي) ، وكذلك الإمام أبو نصر السجزي -رحمه الله تـ444- قال الذهبي -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء (13/ 271): " قال أبو نصر السجزي في كتاب "الإبانة": وأئمتُنا كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله سبحانه فوق العرش، وعلمه بكل مكان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء " ا.هـ ، وهذا كله خلاف عقيدة الأشاعرة ؛ فالأشاعرة يقولون: إن الله تعالى لا فوق ولا تحت ، ولا داخل العالم ولا خارجه ،  ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا يُسألُ عنه بأين ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ..

ومن الحنفية مَن يُضلل الأشاعرة وينسب مقالاتهم إلى الجهمية كالعلامة ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله تـ 792- وهذا واضحٌ في شرحه المعروف على العقيدة الطحاوية ، وشرحه هذا مليء بالرد على ضلالات الأشاعرة وانحرافاتهم ؛ فليُراجَع ، وهو واحدٌ من أتباع المذاهب ..

وأما المالكية فقد قال فخر المالكية الإمام ابن عبد البر القرطبي -رحمه الله تـ 463- في كتابه جامع بيان العلم وفضله (2/ 943) ناقلا عن ابن خويز منداد المالكي -رحمه الله تـ390-: 
" وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها " قال أبو عمر: «ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه» ". 
فهذان إمامان مالكيان جليلان يُبَدِّعان الأشاعرة ..

وأما الشافعية فللإمام اللالكائي الشافعي -رحمه الله تـ418 كتاب مشهور في اعتقاد أهل السنة، وهو (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) وقد مُلِئ بأقوال السلف في نقض عقائد أهل الكلام الموافقة للأشاعرة وتضليلهم وتبديعهم ، وهو كتاب لا يحفل به الأشاعرة ولا يعنون به بخلاف أهل السنة. 

قال التاج السبكي –وهو أشعري- في طبقات الشافعية الكبرى عن الإمام محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي –رحمه الله تـ532-(6/ 140): " قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَله قصيدة بائية فِي السّنة شرح فِيهَا اعْتِقَاده واعتقاد السّلف تزيد على مِائَتي بَيت قرأتها عَلَيْهِ فِي دَاره بالكرج..." ثم قال السبكي: " اعْلَم أَنا وقفنا على قصيدة تُعزى إِلَى هَذَا الشَّيْخ، وتلقب بعروس القصائد فِي شموس العقائد نَالَ فِيهَا من أهل السّنة، وباح بالتجسيم؛ فَلَا حَيا الله معتقدها، وَلَا حيى قَائِلهَا كَائِنا من كَانَ، وَتكلم فِيهَا فِي الْأَشْعَرِيّ أقبح كَلَام، وافترى عَلَيْهِ أَي افتراء..." ثم قال: " ثمَّ رَأَيْت شَيخنَا الذَّهَبِيّ حكى كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ الَّذِي حكيته ثمَّ قَالَ: قلت أَولهَا: 
(محَاسِن جسمي بدلت بالمعايب ... وشيب فودي شوب وصل الحبائب) 
وَمِنْهَا: 
(عقائدهم أَن الْإِلَه بِذَاتِهِ ... على عَرْشه مَعَ علمه بالغوائب) 
وَمِنْهَا: 
(فَفِي كَرَج، والله من خوف أَهلهَا ... يذوب بهَا البدعي يَا شَرّ ذائب) 
(يَمُوت وَلَا يقوى لإِظْهَار بِدعَة ... مَخَافَة حز الرَّأْس من كل جَانب) 
انْتهى مَا حَكَاهُ الذَّهَبِيّ.. وَكَانَ يتَمَنَّى فِيمَا أعرفهُ مِنْهُ أَن يحْكي الأبيات الْأُخَر ذَات الطَّامَّات الْكبر الَّتِي سأذكرها لَك وَلَكِن يخْشَى صولة الشَّافِعِيَّة وَسيف السّنة المحمدية " ا.هـ.. يريدُ السبكيُّ أن الذهبيَّ كان بودِّه أن يصرِّحَ بأبيات الكرجي التي تذم الأشاعرةَ ، ولكنه خشيَ من الأشاعرةَ ، وهذا يدلك على أن الذهبي -وهو إمامٌ شافعي- يعتقد ضلالَ الأشاعرة بتصريح تلميذه السبكي..

من قصيدة الكرجي الشافعي قولُه: 
(وخبث مقَال الْأَشْعَرِيّ تخنثٌ ... يضاهي تلوِّيهِ تلوي الشغازب 
يزين هَذَا الْأَشْعَرِيّ مقالَه ... ويقشبه بالسم ياشر قاشب). 

وقد أشار الذهبي في تاريخ الإسلام وابن كثير -رحمهما الله- في طبقات الشافِعِيِّين إلى هذه القصيدة -وكلاهما شافعي- وأقرَّاها ولم ينكرا ما فيها. 

وقال العلامة يحيى العمراني الشافعي -رحمه الله تـ558- في كتابه الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/95-96): " وقد أدخلت المعتزلة والقدرية على الإسلام وأهله شبها في الدين ليموهوا بها على العوام، ومن لا خبرة له بأصولهم التي بنوا عليها أقوالهم، فاتبعوا متشابه القرآن وأولوا القرآن على خلاف ما نقل عن الصحابة والتابعين المشهورين بالتفسير، لينفقوا بذلك أقوالهم، فهم أشد الفرق ضرار على أصحاب الحديث، ثم بعدهم الأشعرية؛ لأنهم أظهروا الانتصار الرد على المعتزلة وهم قائلون بقولهم ". 

فهذه جماعةٌ من أتباع الشافعية يقررون ضلال الأشاعرة ، ولا يخفى أيضا إمامُ الأئمة ابن خزيمة الشافعي -رحمه الله تـ311- الذي نصر طريقةَ السلف وهو من أكابر الشافعية، وهو عند الأشاعرة مجسم ضال؛ لأنه نسف عقائدهم في كتابه العظيم (كتاب التوحيد) والذي يسميه الرازي الأشعري "كتاب الشرك"!! نعوذ بالله من الضلال. 

وكذلك ممن ضلل الأشاعرة إمام الظاهرية أبو محمد ابن حزم -رحمه الله تـ456- ووصفهم بأشنع الأوصاف والنعوت عند ذكره لمقالاتهم الشنعاء في ديوانه: (الفِصَل في المِلل والأهواء والنِّحَل) ؛ فليُراجع ؛ فإن نقاشه لهم قيّمٌ في أكثر المواضع.. والظاهرية هم أتباع المذهب الخامس من مذاهب أهل السنة كما هو مشتهر عند فضلاء المتمذهبة. 

وأما الحنابلة ؛ فهم أكثر من اشتهر بالتعصب على الأشاعرة ومخالفة سبيلهم ،
قال ابن أبي يَعلَى في كتابه طبقات الحنابلة (2/ 18): " قرأت عَلَى علي القرشي عن الحسن الأهوازي قَالَ: سمعت أبا عبد اللَّه الحمراني يقول: لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول: رددت عل الجبائي وعلى أَبِي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت لهم وقالوا وأكثر الكلام فِي ذَلِكَ فلما سكت قَالَ البربهاري: ما أدري مما قُلْتُ قليلا ولا كثيرا ولا نعرف إلا ما قاله أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أحمد بن حنبل قَالَ: فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبله مِنْهُ ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها " ؛ فهذا هو الإمام البربهاري -رحمه الله- يُنَكِّلُ بإمام الأشاعرة رغم إظهاره لتوبته، وهذا من شدة أهل السنة حالَ العزة والتمكين على أهل البدع والزيغ.

وقال ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة (2/ 239) مضللا الأشاعرة: " وصل إلى مدينة السلام بالجانب الشرقي ولد القشيري وأظهر عَلَى الكرسي مقالة الأشعري ولم تكن ظهرت قبل ذَلِكَ على رؤوس الأشهاد لما كَانَ يلحقهم من أيدي أصحابنا وقمعهم لهم فعظم ذلك عليه وأنكره غاية الإنكار وعاد إلى نهر المعلى منكرا لظهور هَذِهِ البدعة وقمع أهلها فاشتد أزر أهل السنة وقويت كلمتهم وأوقعوا بأهل هَذِهِ البدعة دفعات وكانت الغلبة لطائفتنا: طائفة الحق.. فلما أدحض اللَّه تعالى مقالتهم وكسر شوكتهم عظم ذَلِكَ عَلَى رؤسائهم وأجمعوا للهرب والخروج عن بلدنا إلى خراسان ". 

وقال ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة (2/ 247) عن أبي إسماعيل الهروي: " كَانَ يدعى شيخ الإسلام وَكَانَ إمام أهل السنة بهراة ويسمى خطيب العجم لتبحر علمه وفصاحته ونبله وَكَانَ شديدا عَلَى الأشعرية "، وقد صنَّف كتابا شنّع فيه عليهم وعلى إخوانهم من أهل الكلام (الجهمية والمعتزلة والكُلّابية) وهو كتابه القيّم المشهور: (ذم الكلام وأهله)، ونُقل عنه -رحمه الله- أنه كان يجهر بلعن الأشاعرة.. 
فهذا شيءٌ يسير مِن تضليل الحنابلة وتبديعهم للأشاعرة، وليس قصدي الاستقصاء ؛ بل القصد هو بيان أن أتباع المذاهب كانوا يبدعون الأشاعرة ، لا كما يزعم  هؤلاء أن غير المتمذهبة هم الذين يطعنون في الأشاعرة فقط. 

 وليكن في بالك ما أسلفتُ من أن أئمة المذاهب أنفسهم ليسوا على اعتقاد الأشاعرة، ولهم في مخالفة اعتقاد الأشاعرة جمل كثيرة منقولة في كتب السنة والعقائد، إلا أنهم لم ينصوا على ذكر الأشاعرة باسمهم ؛ لأنهم لم يُدركوا هذه الفرقة ، وإنما أدركوا الجهمية الذين هم سادة الأشاعرة في التعطيل وعلم الكلام وهم الذين أفادوا الأشاعرةَ عقيدةَ إنكارِ علو الله تعالى -التي أجمع السلف على فسادِها- وغيرها من العقائدة الضالة ، وعاصَروا -أعني أئمة السنة كالإمام أحمد وأقرانه- أقربَ الفرق للأشاعرة وهم "الكُلَّابيَّة" أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب الذي ضَلَّلَهُ الإمامُ أحمد رحمه الله وحذَّرَ منه، وإذا رأيت سببَ تحذير الإمام أحمد منه؛ وجدتَ أنه حاصلٌ في هؤلاء الأشاعرة والله المستعان.. 

واعلم أيضا أنه قد بدّع الأشاعرةَ بعضُ الصوفية غيرِ المتمذهبة من المتأخرين ؛ فهذا هو السيد أحمد بن الصديق الغماري -رحمه الله- من أكابر صوفية المغرب يرى أن الأشاعرة من أهل البدع ومن الفرق الضالة، وهو مع ذلك مباينٌ لمذهب أهل السنة.. 

ولتكن كذلك على علم أن أبا الحسن الأشعري -رحمه الله- لم يكن إماما يُقتدى به في السنة ؛ فقد كان ضالا أربعين سنةً من عمره على طريقة المعتزلة، ثم صار في خبصٍ مدةً من حياته مذبذبا بين اعتقاد أهل السنة وبين اعتقاد أهل الكلام والبدعة من الجهمية والمعتزلة ، ثم آلَ في آخر سِنِيِّ عمره إلى اعتقاد أهل السنة -في الجملة- الذي قرره في كتابيه: (الإبانة) و(مقالات الإسلاميين).. 

والأشاعرةُ في هذين الكتابين على قسمين: قسم ينكر صحة نسبتهما إليه -فرارًا مما فيهما من تقرير اعتقاد السنة-، ويقررون أن الأشعري باقٍ على عقيدته المذبذبة التي أعجبتهم فاعتنقوها..

وبعضهم يثبت نسبتهما إليه، ويتأول نصوصَ هذين الكتابين كما يتأول نصوصَ الوحيين؛ فيصرف دلالات الكتاب عن ظاهره إلى ما تمليه عليه عقيدته ، ومن اجترأ على تحريف الوحي بما يسميه تأويلا ؛ فهو أَجرأُ على تحريف كلام أهل العلم عن مُرادِهم!! والله المستعان ..

ومما يدندن حوله أشاعرة هذا العصر أن الأشاعرة هم جمهور الأمة وسوادها ، وأن معظم علماء الإسلام من الأشاعرة ؛ وهذه دعاوى لا برهان عليها ، بل كانت أجيال الإسلام الأولى لا تعرف عقائد الأشاعرة ولا تتكلم بما يتكلمون به ، بل ولا قاله أحد من النبيين ولا أشار إليه من عهد آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل إنك تجد بعض كبار أئمة الأشاعرة يُقِرُّون بذلك ، ويعلمون أن عقائدهم لا يمكن أن تُفهم إلا بعسر ، ولا يتقبلها أكثرُ الناس ، بل صرحوا بأن الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم أقرُّوا الناس على اعتقاد الباطل -يعنون بالباطل عقائد سائر الناس من العوام التي هي عقائد أهل السنة- ؛ فهذا العز بن عبد السلام -رحمه الله- يقرر أن اعتقاد علو الله تعالى على خلقه -الذي هو خلاف معتقد الأشاعرة- لا انفكاك للناس عنه ، وأن معتَقَدَ الأشاعرة لا يمكن التوصل إليه لكل أحد بل هو عسير، ويقرر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرَّ الناسَ على الباطل -والعياذ بالله- فقال: " إن اعتقاد موجود ليس بمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه [هذا اعتقاد الأشاعرة] لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة، ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم ؛ فلأجل هذه المشقة عفا اللهُ عنها في حق العادي، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يُلزم أحدا ممن أسلم على البحث عن ذلك بل كان يقرهم على ما يعلم أنه لا انفكاك لهم عنه، وما زال الخلفاء الراشدون والعلماء المهتدون يقرون على ذلك مع علمهم بأن العامة لم يقفوا على الحق فيه ولم يهتدوا إليه، وأجروا عليهم أحكام الإسلام من جواز المناكحات والتوارث والصلاة عليهم إذا ماتوا وتغسيلهم وتكفينهم وحملهم ودفنهم في مقابر المسلمين، ولولا أن الله قد سامحهم بذلك وعفا عنه لعسر الانفصال منه ولما أجريت عليهم أحكام المسلمين بإجماع المسلمين ".. ونحن نقول للعز -رحمه الله-: بل هذا الاعتقاد الذي قررتَ أنه "لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة" هو الضلال المبين، وأن ما قررتَ أنه يعسر الانفصال منه، وأن الناس "لا انفكاك لهم عنه" هو الحق الذي جاء في نصوص الوحيين بأوضح بيان ، وهو ما كان عليه جميع النبيين عليهم السلام والخلفاء الراشدين عليهم الرضوان، ولو كان الحقُّ خلافَه؛ لبيّنوه للناس ولَمَا كَتَمُوه عنهم، وإلا كانوا ممن خان الميثاق الذي أخذه الله على العلماء، والله المستعان. 

وقال الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين (4/ 434): " القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء [يعني علماء الأشاعرة] وهو أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه قد حير عقولَ أقوامٍ حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته "..

وقال في كتابه إلجام العوام مبينًا سبب كتمِ النبي عقيدتَه في صفاتِ الله عن الناس -بزعمه-: " فإن قيل: لمَ لم يكشف الغطاءَ عن المراد بإطلاق لفظ الإله ولم يقل أنه موجود ليس بجسم ولا جوهر ولا عَرَض ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل ولا هو في مكان ولا هو في جهة [ هذا اعتقاد الأشاعرة!! ]... قلنا: اعتُذِر بأن هذا لو ذكره؛ لنفر الناس عن قبوله، ولبادروا بالإنكار وقالوا هذا عين المحال...أما إثبات موجودٍ على ما ذكرناه من المبالغة في التنزيه شديد جدا، بل لا يقبله واحد من الألف لا سيما الأمة الأميَّة " ا.هـ

فنقول للغزالي -رحمه الله-: صدقت ؛ فإن هذا الذي تقوله هو غاية التعطيل وغاية الانتقاص من ربنا الأعلى جل وعلا لا غاية التنزيه ؛ فلذا لن يقبله أحدٌ من المسلمين كما أقررتَ ، وليس كما يقول بعضُ أشاعرة اليوم ؛ فإنهم يزعمون أن الأشاعرة هم أكثر الأمة ، والحق أن الأمةَ لا تدري ما عقائدُ الأشعرية ، ولا تدري أن عقائد الأشاعرة مخالفةٌ لفطرةِ الأمّةِ الأمية كما صرح به الغزالي -رحمه الله- الذي هو من رؤوس الأشاعرة.. 

وقال الرازي الأشعري في تفسيره (26/ 446): " الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة. [يعني الرازيُّ تعطيلَ الله عن علوه على خلقه] فهنا يقشعر جلده؛ لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم [وهذا هو اعتقاد الأشاعرة –تعالى الله عن ذلك-]، مما يصعب تصوره؛ فههنا تقشعر الجلود ".. 

وقد صدق الرزاي ؛ إذ هذه صفة المعدوم الذي هو نقصٌ وتعطيلٌ محض ؛ فالعقولُ السليمة التي لم تتلوث بالشبهات وعلمِ المنطق والكلام -وهي عقول أغلب الأمة- تَنْفِرُ مِن هذه الصفة، وأما العقولُ المَشُوبَة بالفلسفة والغُثاء فهي التي تعتقد هذا الاعتقاد بكُلفةٍ شديدة، وأجزم أن كثيرا منهم شاكٌّ في اعتقاده هذا ، والله المستعان على ما يصفون.

أما قولهم: إن الأشاعرة خدموا الدين وحفظوا العلوم ، فهذا حقٌّ ؛ فقاموا بعلوم الآلة أحسن قيام ، هم وغيرُهم ، وكانوا كثرةً في بعض القرون ، وكلُّ مَن خدمَ الدينَ فجزاه اللهُ خيرا بما خَدَم ، ويُشكَرُ له صنيعُه وصِدقُه وحُسنُ نيّتِه في خدمة الدين ، ويُستفاد مما قالَ وكَتَبَ ، ويُنْسَبُ له فيه الفضلُ ولا يُجْحَد ، ولا يَعني هذا أنه أصاب في الاعتقاد ؛ فيُرَدُّ عليه خطأُ اعتقادِه ، ويُقبل منه صوابُ اجتهادِه ، كالزمخشري -رحمه الله- وهو من أئمة المعتزلة إلا أن الناس عالةٌ عليه في تفسيره وفي البلاغة ، لا يُجحد فضلٌه ويُشكر له ، ويُرَدُّ على أخطائه ، أما أنْ نُمرر عقيدةَ كلِّ من خدمَ الدين ونصححَها له لأنه خدم الدين وقام على ثغرٍ فيه ؛ فما هذه بحجة ولا بطريقة يستدل بها على تصحيح العقائد ، وليس من شرط الإفادة في الدين أن يكون المفيدُ سنيًّا ، بل السنَّةُ وصفٌ لمن اتّبَع العقيدةَ التي كان عليها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومَن خالفها لم يتصف بها وإن كانت له مآثرُ يُشكَرُ عليها ، ويُعتذَرُ له بحُسْنِ نيته إذا عُلِمَ منه ذلك ، وكَونُ المرءِ مخالفًا للسنة لا يعني تكفيرَه ولا تبديعَه بعينه ما لم تَقُم عليه حُجةٌ كما هو معروف عند العلماء ، ولكن يُحَذَّرُ مِن خطأِهِ ويُبَيَّنُ ولا يُمدح بما ليس فيه ..

ولِلأشاعرة عقائدُ فاسدةٌ كثيرةٌ ، منها إنكار علو الله تعالى ، ومنها إنكار أن يكون القرآنُ كلامَ الله ، بل يقولون: إن الله تعالى لا يتكلم متى شاء بما شاء ، وأن هذه الحروف التي نقرأُها في كتاب الله ونتلوها لم يتكلم بها اللهُ سبحانه ، وهم مرجئةٌ في الإيمان ، ولا يرون تسبيب الأشياء ؛ فيقولون مثلا: السكين لا تقطع ، والضرب لا يُوجِع ، والنار لا تَحرق! ، بل يخلق اللهُ كلَّ ذلك عندها لا بها ، وهذه العقائد لا يدري بها أحد من المسلمين إلا من تلقنها تعليمًا عنهم ، وغير ذلك من فاسد الاعتقادات التي قد يختلفون هم أيضا فيها ، سلمنا الله وإياكم وجميع المسلمين ..

والخلاصة: أن التمذهب مسلكٌ فقهي ، والأشعريةُ مسلكٌ عَقَدِيٌّ ، والمسلكُ الفقهي قد ينتسب إليه الأشعري والمعتزلي والسني وسائر الناس على اختلاف مشاربهم الاعتقادية ؛  فلا ارتباط بين التمذهب والأشعرية ؛ فقد يكون الشافعي سنيا وقد يكون أشعريا ، وقد يكون الحنبلي سنيا وقد يكون أشعريا ، وهكذا ، والحمد لله رب العالمين.

تعليقات

  1. مقال غير موفق اطلاقا وجميع مقدماته لا تستلزم مدعاه ..جميع ما ذكره صاحب المقال لا يدل على فك الارتباط بين المذهب الاشعري والمذاهب الفقهية إطلاقا .. وما نقله من أقوال صريحة في الذمة لا تمثل المذهب وإنما تمثل آراء شخصية لا يعول عليها .
    وللكلام صلة...!!

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا على هذا المقال وعلى التوضيح وهذه النقولات.

    ردحذف
  3. جزاك الله خيرا مقال وتبيان موفق

    ردحذف
  4. تقول :
    ( ولِلأشاعرة عقائدُ فاسدةٌ كثيرةٌ ، منها إنكار علو الله تعالى )
    لم ينفِ العلو الذي ورد في القرآن أحد من المسلمين

    فإطلاقك هذا هو جعل شيئٍ محل نزاع وهو ليس بذلك.
    وإنما الذي ينفيه الأشاعرة هو العلو الحسي والعلو في جهة وحد لكون هذا يدل على المماثلة بين الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- وبين مخلوقاته ؛ والله سبحانه يقول ( ليس كمثله شيئ ).

    ردحذف
    الردود
    1. قد أخزاك الله يا صاحب نفي العلو الحسي بأن رد عليك بقوله "يخافون ربهم من فوقهم" فالله مستوى على عرشه فوق خلقه والله علي ذاتا وقهرا وقدرا. ما أصفى عقيدة أهل السنة وأيسرها فالله رحيم بعباده أمرهم بأمر بين واضح لا لبس فيه ولا تعقيد خاطبهم بما يطيقون وجعل الإيمان بالغيب صفة المتقين.

      حذف
    2. في الحقيقة ليس إطلاقي في محل النزاع، وعدم نفي كل الطوائف للفظ أمر معلوم لدى الجميع، والنفي يُصرَف للظاهر ابتداءً، والظاهرُ هو ما تنفيه الأشعرية لأنها تتوهم أن الظواهرَ توهِمُ التشبيه، ولا تماثل بين علو الخالق وعلو المخلوق؛ فالله سبحانه هو الأعلى المحيط بكل شيء، ولا مخلوق له هذه الصفة؛ فأين المماثلة؟!، ولازم قولك هذا أن تنفي الحياة أيضا والقدرة والعلمَ؛ لأنها من صفات المخلوقين ، وتعالى الله أن يماثل المخلوقين في صفتهم .. فالخلاصة أن الأشعرية ينفون العلو الذي هو مراد الله حقيقةً، ولا عبرةَ بهذا التلاعب اللفظي، وزعمهم أنهم يثبتون العلو؛ لأن إثبات علو القهر والمكانة محل اتفاق بين جميع المسلمين، والخلاف في إثبات ظاهر العلو الذي يفهمه عامة الناس وأكثر الخلق من تواتر النصوص الشرعية كتابا وسنةً على إثباتها بإقرار أئمة الأشعرية، إلا أنهم قدموا مبادئ أرسطو العقلية في الفهم على مبادئ اللغة العربية والمعاني الشرعية ؛ فوقعوا في الفساد الذي سبقتهم إليه المعتزلة؛ فهم على منهاج المعتزلة في نفي العلو، والله المستعان ..

      حذف
    3. أحسنت ..الاعتراف بالذنب فضيلة.

      اطلاقك جعل الكلام أن لا يكون في محل النزاع.
      فهذا يعني يا عدنان لما تريد أن تذكر عقيدة الأشاعرة فيما بعد أن تذكره على أنهم ينفون العلو الحسي المستلزم لأن يكون لله سبحانه وتعالى حداً
      لأن الأشاعرة لا ينفون العلو مطلقاً بل ينفون ذلكم العلو الذي ذكرته آنفاً ، لأن الكلام يصرف للظاهر ابتداءً.

      حذف
    4. صاحب تعليق(قد أخزاك الله)..

      هداك الله أخي ووفقك لكل خير
      لا داعي لهذا التعصب يا أخي 😊
      تعال لنتحاور قليلا..
      قبل أن ندخل في نقاش سؤال لك
      هل تعتقد أن الله سبحانه وتعالى قديم أي لا ابتداء لوجوده سبحانه وتعالى وأن غيره سبحانه لوجوده ابتداء = حادث ؟

      حذف
    5. ذكري لاعتقاد الأشاعرة فيما قبل وفيما بعد سيكون بإطلاق نفي العلو؛ لأنه هو مراد الشرع، ولا يتحتاج إلى هذا التفصيل السامج؛ لأنك لو طردتَ هذا التفصيل في كل شيء؛ لاحتجت في كل كلمة مشتركة أو مجملة إلى التفصيل والتقسيم عند الإثبات أو النفي، وهذا مخالف للأسلوب العربي، ومخالف للأفهام، ومخالف لواقع الاستعمال أصلا؛ فأنت كمن جاءَ إلى رجلٍ في صحراء قاحلة يبحث لقومه عن عينِ ماءٍ؛ فلما جاءَهم قال لهم: ليس ثَمَّتَ عين؛ فجاءه رجلٌ -يشبهك من قومه :)- فقال: لا تكذب؛ ففي الصحراء عينٌ؛ فهذه عينُك موجودة فيها، ولربما كان فيها جاسوسٌ، وعينُك -بمعنى نفسُك- موجودة في الصحراء؛ فإذا أردتَ أن تنفي في المستقبل؛ فلا بد أن تحدد العينَ المنفيةَ ولا تطلق!!، أو كرجلٍ قال عن صاحبه: صاحبي لا يصلي؛ فصاحَ صاحبُه وضجَّ ولجَّ وغضب، وقال له: كيف تنكر أني أصلي وأنا في كل يوم أدعو الله تعالى؟!؛ فقال له: إنما أردتُ أنك لا تصلي الصلاةَ المعروفة؛ فقال له صاحبه: إذا أردتَ أن تنفيَ عني الصلاةَ فانفِ الصلاةَ الشرعيةَ، ولا تطلق الألفاظ!! ... وهذا كما ترى كالهذيان؛ لأن المنفيَّ معلومٌ عند الجميع؛ فلا حاجة لهذا التفصيل .. والعلوُّ المتواترُ في نصوص الشريعة هو ما تشتهي أن تسميه بالعلو الحسي؛ فمَن نفاه فقد نفى العلوَّ الذي هو مراد الشرع؛ ولا التفات لمن خالفه، ولا حاجة لنا في تهوين شأنِ خلافه بهذه التفصيلات التي لا تخطر على قلب عاقلٍ، وإنما هي سبيلُ العُجمة أو حاجةُ أهل البلادة، وأرجو أن لا يكون في القرّاء مَن هو كذلك ..

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة