التعليقة الثانية على رد المرتعة العلمية ..



" ورُبَّ خَرْقٍ نازحٍ فَلاتُهُ

لَا يَنْفَعُ الشاوِيَّ فِيهَا شاتُهُ

وَلَا حِماراهُ وَلَا عَلاتُهُ

إِذا عَلاها اقْتَرَبَتْ وفاتُهُ "

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على رحمة العالمين، وعلى آله ومن انتهج نهجَه إلى يوم الدين، وبعد:

 

فقد وصلتني وريقات بعنوان (تقرير دليل احتفاء الصحابة بالنبي، وتفنيد تخرصات عدنان العمادي واللندني!) كتبها رُتَّعُ الشاوي باسم (قسم البحث والإفتاء في المرتعة) -ولا أدري أهو الذي يكتب باسم هذا القسم ليرفعَ نفْسَه ويمتدحها -لأن الأسلوب هو الأسلوب، والعبارات هي العبارات- أم أنه يُشرف على مدح رُتَّعِه له فحسب!- : مضمونها الرد على تعليقة لي  على مقطعه الذي يحرِّفُ في دلالة حديث نبوي شريف ، وقد كان ردُّهم انتقائيا متشعبا في موضوعات لا صلة لها بالقضية، واستطرد في جزئيات لا فائدة منها من مظلوميات واتهامات وامتداح للنفس وتبرئة  لها وتكرار لما في مقطعه، وأود هنا التعليق على جزئيات فيه مما يستحق التعليق ..

 


المظلومية والاستعداء!



 

لحظت في ردود هؤلاء الرُّتَّع-سواء هذا الرد، أو ما كان سابقا في مسألة التراويح والتمذهب- محاولتهم استعداءَ السُّلطة على المخالف، ولا غرابة؛ فهذا ديدن أهل الأهواء والبدع إذا لم يستطيعوا قرعَ الحجة بالحجة، كأسلافهم المعتزلة الذين استعْدَوا السلاطين على أئمة السنة، وحاولت الرتّعُ الاستعداء َباستدلالهم في ردودهم بأفعال وزارة العدل والشؤون الإسلامية ونحوها، ويحاولون افتعال خصومة بيننا وبين المؤسسات الحكومية، وهذه خطط مكشوفة مفضوحة لا تروج على القرّاء، ولا على المؤسسات الحكومية، وأهل البحرين أهل عقل وحكمة، لا أهل فتنة، وأفطن مِن أن يقعوا في هذا الفخ الوضيع.

 

وأما مظلوميتهم الدائمة؛ فهي في تصوير أنفسهم أنهم أهل التسامح والوحدة، وأن مخالفَهم متشددٌ صاحبُ فتنة، وبكذبهم على المخالف وزمرته التي وصفوها بأنها "لا تعترف بالاختلاف الفقهي السائغ"، "ولا تراعي الخصوصية المذهبية طريقا منضبطا في الإفتاء"، "ولا تحترم التعددية والتنوع الفكري"، وادعائهم أن مخالفَهم يشن عليهم "هجمة تحريضية منظمة"،  وغير هذه الدعاوى والهرطقات، وكل ما في الأمر أن كاتب هذا المقال ردَّ ردًّا علميا على منشور  لشيخ الرُّتَّعِ بلا تنظيم ولا تحريض ولا زمرة. ومَن عرفهم عرفَ واقعَهم؛ فهم الذين لا يحترمون اختلافًا ولا تعددية؛ فهم يوجبون -بضيق أفقهم- تقليدَ المذاهب الأربعة فقط وبفهمهم هم للمذاهب دون فهم غيرهم، ويحرّمون تقليدَ غيرها واتّباعَه؛ فلا يجيزون التمذهب بالمذهب الظاهري ولا الجعفري ولا الزيدي ولا ترك التمذهب كليةً، ولا اتّباعَ غير هؤلاء مِن الأئمة مِن التابعين وأئمة الدين؛ فألغوا كل رأي سوى رأيِهم، وهم الذين يعارضون عملَ الناسِ وتنوعَهم، ويرفضون ما ارتضته لهم حكومتُهم؛ كما كتب من قبل شيخ الرّتّع مقالًا ينكر صنيعَ عامة الناس في صلاة التراويح، ويطالب بالتشديد عليهم بزيادة عدد ركعات التراويح إلى عشرين، ولم يرتضِ التعدديةَ ولا التنوع، ولم يحترم ما ارتضته الحكومةُ والشعب الكريم مِن إقامة التراويح دون عشرين ركعة لمن شاء، وإقامتها بالعشرين لمن شاء بحسب توافقِ الأئمةِ ومصلي مساجدهم؛ فالرّتَّعُ لا يحترمون الخلاف الفقهي السائغ، و يجاهدون لإلغاء التعدد وحصر الحق فيما يلتزمونه من التمذهب بمذاهب محدودة؛ فهم إذن من يثير  نعرات الفتنة والتفرق، وهم الذين لا يرتضون النقاش العلمي، ولا الرد على ما ينشرونه مِن باطل.

 

وهؤلاء الرتّع يتوهمون ويُوهمون أنهم هم الوكيل الحصري للمذاهب، ويظنون أنهم هم مَن يتفقه على المذاهب دون مَن سواهم، وأن الردَّ عليهم هو ردٌّ على المذاهب الأربعة، ويجعلون قولَ بعضِ العلماءِ المتمذهبةِ هو المذهب؛ فمَن خالفَه خالفَ المذهب، وهذا كله هراء؛ فغيرُهم درَسَ المذاهبَ، ودرّسَ بعضَها، وفي بلادنا بحمد الله جموعٌ كثيرة مِن طلبة العلم والأشياخ الذين ينتسبون لبعض المذاهب الأربعة ولا يُقرون الرتّعَ ولا يوافقونهم لا في أصولهم العقدية ولا في فروعهم المبتدَعة، وكم لنا مِن الأصحاب والشيوخ ممن يتمذهب لمالك والشافعي وأحمد ولا يقول بمشروعية هذه الاحتفالات المخترَعة، لكن الرتّع غرّتهم أنفسُهم، وظنوا أنهم هم الذين يفهمون، وأنهم هم الحجة في تصحيح المذاهب!، وهم يتمسحون بالمذاهب الأربعة ويخالفون أئمتها كما ترى في الاحتفال بالمولد النبوي وغيره، واللهُ يخلق ما يشاء! ..

 

تعليقةٌ على استدلاله بالقياس المنطقي الهرطقي

كررَّ وأمَلَّ -في عدة مواضع- بسرد المعاجم والأخبار لتفسير الاحتفال في اللغة بأنه: الاجتماع، ثم أعطانا بناءً عليه هذا التقريرَ الظريف؛ فمقدمته الأولى: أن الصحابة اجتمعوا لإظهار الفرحة والسرور بنعمة ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -وكذبَ-، ومقدمته الثانية: أنهم كلما اجتمعوا لإظهار الفرحة؛ فقد احتفلوا (أي اجتمعوا كما فسَّره هو) لإظهار الفرح، والنتيجة: أنهم اجتمعوا لإظهار الفرحة، وهذه مقدمات ونتيجة كلها مكررة بنفس المعنى، ولا توصل إلى حكم، وهي أصلا محل النزاع؛ فملخص كلامه: أنهم اجتمعوا لإظهار الفرح بالمولد، وكلما اجتمعوا لإظهار الفرح به؛ فقد اجتمعوا لإظهار الفرح به؛ فثبت أنهم اجتمعوا لإظهار الفرح به، وهذا كما ترى استدلال يُذكر للتندر به فحسب؛ فمقدمته الأولى هي عين مقدمته الثانية، وهما عين النتيجة التي هي أصلا دعوى لم يثبتها؛ فأثبت العرش ثم انقش!..

 

وإن كان هذا الحديث ثابتًا بهذه اللفظة، وبهذا المعنى الذي ادّعَوه؛ فيعني أنّ الاحتفالَ بالمولد سنة لا بدعة؛ لأنه قد عُمِلَ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقره، وعمله الصحابةُ مِن بعدِه، لكن هذا كله غاب عن علماء الأمة حتى اكتشفه الرُّتّع!. وقد ذكرتُ في تعليقتي السابقة أن القائل بمشروعية المولد والقائل بعدمها كلهم يتفق على أنه بدعة لم تُفعل في القرون الأولى، فقد قال ابن حجر -رحمه الله-، وهو شافعي، وليس ظاهريا ولا لا مذهبيا، وهو محدث حافظ كبير، وهو ممن يرى مشروعية الاحتفال بالمولد: " أصل عمل المولد بدعة ، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن ، وتجنب ضدها : كان بدعة حسنة ؛ وإلا فلا "، نقله السيوطي الشافعي -رحمه الله- في (الحاوي للفتاوي 1/229) وأقرّه.

 

فإما أن هؤلاء العلماء وغيرَهم يَجهلون ما عرفه الرتّع، وإما أن فهمَ الرتّع باطلٌ لا يصح، وهناك احتمال بعيد: أن الله تعالى فتح في الفهم على الرتّع ما لم يفتحه على مَن تقدّم! ..

والرتّعُ يدّعون أنهم هم أتباع المذاهب، وأنهم يقلّدون ولا يجتهدون، وأن النصوص لا يجوز  أن يُتعرّض لفهمها دون واسطة المذاهب؛ فما بالهم هنا أعرضوا عن نصوص أئمتهم التي يجعلونها حجّةً؟!؛ فهلّا التزموا بمذهبهم! ..


تخريج الحديث بأساليب المبتدئين، وتحريف فهم العلماء

بعد أن أيقظَتْهم تعليقتي الأولى راحوا يستدركون ويتتبعون ألفاظ الحديث، والحمد لله أنْ كانت تعليقتي سببًا في اجتهادهم في البحث والتحري، وأرجو أن ينشطوا دائما في تحري الحق، والبحث العلمي الصحيح، واستدلوا بعد هذا على صحة لفظة الحديث(بتعليق محققي طبعة الرسالة للمسند، بقولهم: إسناده صحيح؛ فالحجة إذن في تصحيح المحققين، وواضحٌ من صنيعهم أنهم لا يفرّقون بين حكمِ المحدّثين على الحديث بقولهم: حديث صحيح، وبين قولهم: إسناده صحيح، ولا يعرفون المراد بقولهم: رجاله ثقات، أو  رجاله رجال الصحيح، ويتوهمون أن هذا كله تصحيح للَفظِ المتن، وأدْعوهم إلى القراءة والبحث؛ فهذه مسائل يُدركها صغار طلّاب الحديث، وعسى أن يشرحها لهم شاويهم في مقبلِ الأيام بإذن الله)، ثم لم يَنسَ القومُ أن يحتجوا بالألباني -رحمه الله-؛ لأنه " من المعاصرين المقبولين عند المخالف"؛ وكأن هذا سيحسم النزاع في تحقيق ثبوت هذه اللفظة؛ فانظروا إلى هذا التحقيق العلمي والتدقيق والتحري من القوم؛ وقولوا: بارك الله!، وأدعوهم إلى النظر في إسناد الحديث؛ فإنما جاء من طريق واحد فقط؛ فإما أن يكون ورد بهذا اللفظ أو بذاك، ولا يحتمل الجمع مع كون الطريق واحدا.

وأما تبويبات الأئمة على هذا الحديث فلم يُفَوِّتوا فرصةَ تحريفها بدل الوقوف ومحاسبة النفس، ومقارنة فهومِ العلماءِ بفهومهم؛ فلم يقولوا: لِمَ لَمْ يستنبط هؤلاء الأئمةُ ما استنبطناه نحن من هذا الحديث مع وضوحه؟، لكنهم كابَروا وجعلوها توكيدًا لما اخترعوه، وهذه دعوى لا تحتاج لتعليق؛ فكل محايدٍ سيعرف أن العلماء لم يخطر لهم هذا الفهم من هذا الحديث، وأجرى اللهُ الفهمَ الصحيح الدقيق في عقولِ الرُّتّعِ؛ فسبحانه يؤتي الحكمةَ مَن يشاء.


ظاهرية المرتعة وتركها لفهم العلماء مِمّن احتجت به


قال الأثيوبي -رحمه الله- في (ذخيرة العقبى في شرح المجتبى: 39/376)

«(وَمَنَّ عَلَيْنَا) منْ بين الأنام (بِكَ) أي ببعثتك؛ لأنه الرحمة المهداة منْ الله تعالى، كما قَالَ عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}» ..

استدل الرّتّعُ بتصحيح الأثيوبي -رحمه الله- وتعليقه على ثبوت إسناده، ولكنهم أهملوا شرحه وهو أمامهم؛ لأنه يخالفهم في فهمهم المخترَع؛ فهَلّا أخذوا شرحَه وتفسيرَه كما أخذوا تصحيحه؟!، أم أنهم قوم يتتبعون ما يوافق هواهم فيأخذونه، ويتنكبون ما فارق هواهم؟!. وأما فهمنا للحديث -على افتراض ثبوت اللفظة- فهو الفهم الموافق لفهم العلماء كما ترون، وقد سمى الرّتّع فهمَ الأثيوبي شارح سنن النسائي (الذي يحتجون بتصحيحه) بـ"شبهة".

ثم كذب الرتع بقولهم: "زعم المخالف أن لا وجه لدلالة الضمير على الذات، وهو في هذا السياق أبعد"، والمخالف لا يقول هذا؛ بل قال -بلسان عربي مبين!-:" وهذا لا وجه له قريب في هذا السياق، ودخول الباء على الضمير لا يستوجب إرادة الذات، بل هو في هذا السياق أبعد"، وهم يتبجحون بدراستهم العربية والأصول والمعقولات، ولكننا لا نرى أثرَ هذه العلوم فيهم؛ فلم يفهموا دلالة الألفاظ مع وضوحها؛ فمعنى لا تستوجب: يعني أن إرادة الذات ليس بلازم حتم؛ بل قد يكون مرادا، وقد لا يكون، والاحتمال الثاني هو الأقرب في هذا السياق -مع استصحابنا دائما افتراضَ صحة هذه اللفظة-؛ فقولي: "لا يستوجب" لا يساوي "لا وجه لدلالة الضمير على الذات"؛ بل له وجه، ولكن ليس بلازم، ولا يدل عليه السياق إلا في هواهم؛ فالسياق دالٌّ على ما شرح به الأثيوبي -رحمه الله- الحديثَ، ولم يذكر احتمالا ثانيا؛ لأنه يفهم أساليب العرب في الكلام.

ثم تعجّبَ الرّتّع بقولهم: " والأصل في الكلام الحقيقة والظاهر لا التأويل والمجاز، والمضحك أن المخالف ينتسب إلى فرقة ترى التأويل طاغوتا!" وهذه كذبة؛ فالمخالف لا ينتسب لفرقةً ابتداءً، ولا ينتسب لفرقةٍ ترى التأويل طاغوتا، ولكنهم يوَقّعون الأحكامَ على الناس بلا تحرٍّ ولا روِيّة؛ ويضعون الناسَ في قوالبَ لا يعرفون غيرها.. ولكنني أقلب التعجبَ عليهم؛ فالأعجب أنهم جَمَدوا هنا على الحرفية، وصاروا ظاهريةً جاوزتْ ظاهريةَ ابنَ حزم -رحمه الله- ؛ انتصارا لفهمهم المخترَع؛ وهم ينتسبون إلى فرقة تتوسع في التأويل جدا، بل ترى أن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر!، ولكن قدّر اللهُ أن يلتزموا بالحرفية التامة في هذا الحديث، ولله في خلقه شؤون! ..

وكل عاقل يُدرك أنّ المِنّة لم تحصل بمجرد ولادة النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كانت الولاة هي مبدأ النور- ولكن الناسَ لم تهتدِ بالولادة، ولا دخلت في الإسلام بالولادة؛ إنما أعظم سبب للشكر والحمد هو الهداية، والهداية حصلت بالبعثة والتزكية والتعليم؛ فذلك محل الحمد الذي يلائم السياقَ كما يفهمه كلُّ عربي أو متعلم لعلوم العربية، ولا يخطر في بالِ أحدٍ أن يحمد الله على الولادة، ولا يعرف في سياقات النصوص من الكتاب والسنة ما يدل على هذا؛ بل كل ما يدل هو الحمد والشكر على الهداية التي كان سببَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لا بمجرد وجودِ ذاتِه وشخصِه بينهم؛ بل لهدايته وتعليمه وتربيته صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ القومَ يرجّحون اختراعَهم على كل هذه الدلائل، واكتفوا باقتطاع كلامٍ من شرح الجامي على الكافية لا علاقة له بسياق الحديث ومحل البحث. ولو تنزلنا لهم أن حمدَهم كان على الذات النبوية الشريفة؛ فلا يساعدهم هذا على حشر المولد؛ فإن كانوا -أعني الصحابة- يحمدون اللهَ تعالى على الذات النبوية التي حلّت بينهم ونالوا شرفَ التبرك بها؛ فهو يدل على هذا فقط، ولكن الرتّعّ أيضا تأوَّلوا وزادوا، وقد كانوا قبل أسطر ينكرون التأويل؛ فلم يجعلوا لفظة (بك) تعني بذاتك فقط؛ بل زادوا وزعموا أن احتفاء الصحابة كان بمولد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سبب وجود ذاته؛ فإذن لم يجعلوا لفظة (بك) تعني بذاتك؛ بل جعلوا معنى العبارة هكذا: بسبب وجود ذاتك؛ فتعسفوا في التأويل، وقد كانوا يزعمون الأخذ بالظاهر!؛ فتأمل في هذه التناقضات .. ثم استطردوا في كلامٍ محصّله: أن المنة بالمولد النبوي قد تكون أعظم من المنة بالبعثة، وهذا مبحث استطرادي، وفيه ما فيه من تلاعب وعبث أدَعُ التعليقَ عليه؛ فإنه يحتاج إلى بحث مستقل يطول، ولكن العاقل يُدرك ابتداءً أن مكانةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما حصلت بكونه هاديا للعالمين نبيا رسولا؛ لا أن هداية العالمين تابعةٌ لذاته، وأن ذاتَه هي الأصل، بل كلُّ شرفٍ ورِفعة كانت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم كانت حاصلةً بسبب وحي الله تعالى ونبوته ورسالته ودعوته ورفعِ الله عز وجل له بهذا الشرف العظيم، لا مجرد ذاته الشريفة، ونصوص الشريعة تتعاضد على هذا المعنى بحمد الله تعالى.

 

كذبُ الرتّع على فهم الصحابة ولمزهم ورمي مخالفهم بالكذب الذي وقعوا فيه!


المخالف المسكين شرح لهم معنى الحديث بدلالات السياق، وبكلام الأثيوبي -رحمه الله- شارح السنن الذي ارتضوا تصحيحَه، وتكلم بما يعرف، وقد علمتم مِن قبلُ مَن هو الذي يرمي التهم، ويكذب على المخالفين، وينسبهم إلى ما لا ينتسبون إليه؛ وقالوا هنا كما ترى: "ومن عرف منهج القوم الذين ينتسب إليهم هذا المخالف من ظاهرية لا مذهبية زال عجبه من صنائعهم القبيحة "؛ فانظر كيف يجرّون البحث العلمي إلى الشتائم والكذب؛ فمخالفهم كاتبُ هذه الصفحات لا ينتسب إلا إلى الإسلام، ولا ينتسب إلى قوم ولا إلى منهج آخر، ولكنهم قومٌ يفترون -وأصحح لهم ههنا معلومة؛ فالظاهرية مذهب من المذاهب كما يقررونه، واللامذهبية شيء آخر غير الظاهرية-، وعلى مذهب الظاهرية كان شيخُهم شيخ الصوفية الأكبر ابن عربي، وعلى اللامذهبية كان أحمد بن الصدّيق الغماري العالم المغربي الشهير وهو شيخ شيوخهم في التصوف-.

وعرّض الرّتّع بمخالفهم ومنهجه الذي نسبوه إليه، وهو كما قالوا: (تعضين النصوص)، إيماءً إلى قوله تعالى في الكافرين: {الذين جعلوا القرآن عضين}؛ ثم يرمون المخالف لهم بالتكفير والتشدد!، بل منهج مخالفهم -ولله الحمد- هو تعظيم النصوص لا تعضينها، وأما منهجهم هم؛ فهو تحريف النصوص، ووجوب التقليد على عمى، وردّ النصوص إذا خالفت المذهب، وهم الذين جعلوا الإسلام عضين؛ بتفرقهم على مذاهب متفرقة؛ فهم صوفية لها طرائق كثيرة، وأشاعرة وماتريدية، ومؤولة ومفوضة ... إلخ مما قسّموا وأحدثوا في الإسلام؛ فانظر إلى التي رمتني بدائها وانسلت!..

ثم انظر -رعاك الله- إلى احتجاجهم بحديث صيام يوم الاثنين الذي يُبطل اتخاذَ زمرتِهم ليوم المولد عيدًا؛ فقد قال بعض أهل العلم: في صيام يوم الاثنين إشارة منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنع من اتخاذ هذا اليوم عيدا؛ فالأعيادُ لا تصام، وأما جماعة الرتّعِ فيتركون الصيامَ ولا يحثون عليه، ويَدْعُون لاتخاذ يوم المولد عيدا سنويا، والحديثُ متعلق بصوم الاثنين أسبوعيا لِعللٍ إحداها كونه يوم ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهلا التزموا بمضمون الحديث، وعملوا بما فيه، ودعوا إليه، واكتفوا بما أرشدَنا إليه نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم؟! .. قد كرروا الاستدلالَ بآياتٍ لا دلالة لهم فيها على مقصودهم، أشرت إلى ردّها في تعليقتي التي ردوا عليها، ومَن شاء فليراجع أي تفسير لهذه الآيات من تفاسير أهل العلم، وليقارن تفاسيرهم بتفسير الرّتّع المخترَع، وليحكم بعد ذلك؛ فهم فارقوا فَهْمَ العلماء، واخترعوا فُهومًا بهواهم، وبنَوا عليها أحكاما؛ فصاروا كاللامذهبية التي يذمونها ويشنعون عليها بمباشرة النصوص تفسيرا وشرحا! ..

 

أكِذبةٌ صلعاء؟!


هذا هو مقطع شيخ الرتع المتداول، وانظر إلى العنوان في أسفله كما نصصتُ عليه "احتفال الصحابة بالنبي"، وهذه إذن هي الكذبة الصلعاء!؛ فقارن واحكم؛ فشيخ الرتع إما لا يدري بما ينشره أصحابُه، أو أن أصحابه لم يفهموا عنه، أو أنهم ينشرون ما يخالف مقصوده ..


حُكمٌ شرعي جديد!


قال الرتّعُ: "لما كانت تلك النعمةُ حاضرة في كل لحظة في قلب كل مسلم وعقله، استُحِبَّ الاجتماع للاحتفاء بها في كل لحظةٍ أيضا، وفي هذا حرج على المسلمين ومشقة".

وهذه كذبة صلعاء على الشريعة، ما جاء بها نصٌّ، ولا قال بها فقيه، وليسعفونا بنقلٍ عن أحد الفقهاء أنه قال: الاجتماع للاحتفاء بنعمة المولد مستحب في كل لحظة!، وقد ذكروا هم أقسامًا قبلَها للاحتفاء، وهي:


إذن كيف يكون الاحتفاء منفردا مستحبا في وردٍ يومي، ويكون أيضا في نفس الوقت الاحتفاء بالاجتماع مستحبا في كل لحظة؟!، وأين سائر المستحبات والمسنونات في الشريعة، ثم أين المشقة في الاستحباب؟؛ إنما المشقة في الفرض والإيجاب لا في النفل والاستحباب؛ لأن المستحب لا حرج في تركه، ثم إن المسلمين قد أدوا واجبَ الاحتفاء في جُمَعِهم وصَلاتهم، وفي امتثالهم ودعوتهم فرادى وجماعات؛ فأين المشقة، ولماذا إذن نلجأ ليومٍ سنوي نتخذه عيدًا؟!؛ فتبين بهذا فسادُ فهْمِ هؤلاء للقواعد، وفسادُ تطبيقهم، وليتهم التزموا بتقليد مذهبهم دون اجتهادٍ واستنباط؛ فانظر إلى مضحكات هذه الاستدلالات وظرفها؛ فهي مما يُتندر به حقا!، إلا إن كان مرادهم بقولهم: يستحب في كل وقت، أي يستحب في أي وقتٍ كان دون تحديدٍ؛ فهذا أيضا خارجٌ عن المشقة التي من أجلها حشدوا القواعد في غير محلها.

 

ثم أخذوا يحتجون بالعبادات التي يوقعها الناس في الأوقات التي تتيسر لهم على مشروعية تخصيص يومٍ للعبادة، ولا يخفى تناقضهم في هذا أيضا؛ فهم أوَّلًا أصَّلوا أن حدثَ المولد بنفسه نعمة تستحق العبادة بالاجتماع والذكر والشكر؛ فصار تخصيصهم لهذا اليوم تعبديًّا لا عاديًّا، بخلاف تخصيص الناس لأيام لا على وجه التعبد بل على وجه العادة، وهذا ما ننازعهم فيه أصلا؛ فهم يتخذون عيدا سنويا يضاهي أعياد المسلمين، وليس للمسلمين سوى عيدين أبطلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سواهما من الأعياد، ولكن الشريعة النبوية لم تَسَعْ هؤلاء، فاشتهوا يوما زائدا للاحتفال؛ فجعلوا يومَ المولد عيدا ثالثا، وشابهوا في هذا النصارى الذين اتخذوا يومَ مولد عيسى عليه سلامُ اللهِ عيدا؛ فهم جمعوا بين الابتداع، ومشابهة النصارى الذين أُمرنا بمخالفتهم، والعيد هو كما قال ابْنُ الْأَعرَابِي: " سُمِّي العِيد عِيدًا لِأَنَّهُ يعود كل سنة ‌بفرح ‌مجدَّد"؛ فهذا هو ما يفعلونه حتى ظن عوامهم في كثير من البلدان أن من لا يحتفل بهذا العيد فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم!، وهكذا تفعل البدعُ حتى تصيّرَ السنةَ بدعةً والبدعةَ سنةً! ..

أما مجرد الاجتماع متى ما اتفق لتذاكر السيرة وذكرِ الله تعالى؛ فهذا ما لا يمنع منه أحد؛ بل هو ما يفعله كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم، ولا يسمونه احتفالا، وإنما الشأن في اتخاذه عيدا يُحتفل فيه، ومَن زعم أنه لا يجد وقتًا للاجتماع للذكر وقراءة السيرة إلا في يوم المولد؛ فهو من الكاذبين؛ فتبيّن أنهم يخصصون هذا اليوم تعبدا، وأنهم خالفوا حتى الصحابة الذين استدلوا بفعلهم -لو صح الحديث، وصح لهم المعنى الذي اخترعوه-؛ فإن الصحابة لم يخصصوا يوم المولد ولا التفتوا لهذا المعنى؛ بل كان اجتماعهم كاجتماع سائر المسلمين.

كذبة أخيرة وبدعة ليست حسنة!


هكذا قالت الرتّع وكذبت؛ فليس محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ممن أقتدي به، وإنما أقتدي بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رغبوا عن سنته، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيمن قال: أصوم ولا أفطر، ومَن قال: أصلي ولا أنام، ومَن قال: لا أتزوج النساء: مَن رغب عن سنتي فليس مني، وهؤلاء كما ترى لم يخترعوا عباداتٍ ولا أعياد جديدة؛ بل زادوا في عبادات لها أصل شرعي؛ فالصلاة والصيام كله مشروعٌ مندوبٌ إليه، لكن جعلهم صلى الله عليه وآله وسلم ممن رغِبَ عن سنتِه؛ لأنهم عمِلوا بها على غير هدْيِه عليه الصلاة والسلام. 

وأما تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة؛ فهذا محل اجتهاد ونظر بحسب المراد منه وتفصيله، والخلافُ فيه مشهور عند المتمذهبة وغيرهم. وسواء قلنا بهذا التقسيم أو رفضناه -ونحن ممن يأباه في الشريعة، ونقول كما قال: صلى الله عليه وسلم: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة-: فإن الاحتفال بالمولد النبوي ليس مما يُشرع، وليس داخلا في البدعة الحسنة؛ بل هو تشريعُ عيدٍ ثالث، ومضاهاةٌ للنصارى في احتفالهم، ولقد قال صلى الله عليه وآله وسلم ذامًّا مَن يقتدي بهم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه)! ، وصدق صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم اقتدوا بهم في الاختراع والابتداع، وتركوا الدعوةَ للثابت في السنة؛ فضلوا وأضلوا، ولقد صدق أبو محمد ابن حزم -رحمه الله- إذا يقول: " ما رأينا سُنّةً مُضاعة، إلا ومعها بدعة مُذاعة " ؛ فاللهم سلمنا والمسلمين من البدع ما ظهر منها وما بطن، وأجرنا من أن نقول عليك ما لا نعلم، وأن ننغمس في الهوى، وأن ننسى سنتك التي بيَّنت على لسان نبيك الأكرم ونستبدلها بما شرعه المبطلون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..

 

وكتبه: عدنان بن عيسى العمادي -غفر الله له ولوالديه والمسلمين-

21/ ربيع الأنوار/1443


تعليقات

  1. أكثِر من هكذا مقالاتٍ نافعةٍ ماتعة ، سُدِدْتَ أخي وبوركت.

    ردحذف
  2. بوركتَ يا مولانا على هذا الكلامِ الطيّب الذي يَسرُّ كلَّ مؤمنٍ ويغيظُ كلَّ مبتدعٍ ضال، وفقكَ الله وسدد خطاكَ وأجزلَ لك الأجرَ والثواب، والله الله بهؤلاء المبتدعة الزائغون - قاتلهم الله وأخزاهم - عليكَ بهم..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة