المذهبية الاعتباطية والنقد المذهبي العبثي ..



الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ، وبعد:

فإن التعصب المذهبي بلاءٌ كان مستشريًا في الأمةِ منذ القرن الخامس الهجري تقريبا ، وقد قطعه اللهُ عز وجل في هذه القرون المتأخرة ، ولكنه عاد من جديد بحُللٍ جديدة ، يزينُه أهلُه بعباراتٍ وإشارات ظاهرُها النصيحة وباطنُها الضلالة الصريحة! .. نشأت هذه الناشئة المتعصبة في بلادنا على يدِ أقوامٍ غرباء عنَّا ليسوا مِن بلادنا -وقومُنا يُفتَنون بالغريب- ، وعلى يدٍ استورَدَتْ هذه العصبية مِن بلادٍ بعيدةٍ ، يَسعَون في تقييد العقولِ ، وتبليدِ الأذكياء ، وقطعِ باب التدبر الذي أمر الله به في محكم الآيات .. بسطوا لسان الانتقاد والاعتراض على كلِّ مخالف لهم في مذاهبهم ، وهم بزعمهم أهلُ تقليد ، والمقلدُ لا يرتقي إلى مقام الانتقاد ، ولكنهم إذا خالفتَ أهواءَهم صاروا من أهل الاجتهاد المطلق ؛ يقررون الأحكامَ ويناقشون الأدلة ويعترضون ، ولو التزموا التقليدَ ما اعترضوا على مخالِفٍ لهم ، ولو كان انتقادُهم على منهجٍ قويم لهان الخطب ، ولكنهم على منهجٍ عبثي في النقد كما سأوضح بمثالٍ ..

وهم في تمذهبهم على طريقةٍ لا يعرفها أصحاب المذاهبُ في القرون المتقدمة ؛ فهؤلاء يوجبون عليك تقليد أحد المذاهب الأربعة على التخيير اعتباطًا ، ويُلزمك أمثلُهم طريقةً بالتزام المذهب الموافق لأهل بلدك أيًّا كان ، وقد كان أهلُ المذاهب في القرون المتقدمة يتمذهبون تمذهبًا مَدروسًا ؛ فلا يختارون مذهبَهم اعتباطا ، ولا يَـرون كلَّ المذاهب على سواء ، ولا أن جميعها حق ، ولا يرخِّصون في الاستمساك بمذهبٍ لا يرتضونه ؛ فهم يرون المذهبَ هذا أحق بالاتباع من الآخر ؛ فإذا دعَوا إلى التمسك بمذهبٍ دَعَوا إلى ما يرونه حقا ، وأما هؤلاء فيَدْعُونك إلى الالتزام بأي مذهبٍ كان من الأربعة اعتباطًا ؛ فهمُّهم أن تبقى على التقليد سواء كنت حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا ، وأنت عندهم على الحق ما استمسكت بمذهب من هذه المذاهب على اختلافها وتضادها ، وأنت عندهم على باطل إذا لم تتمذهب وإن وافقتَ الحقَّ في أقوالك ، وهم يرون الدعوةَ إلى الأخذ بالدليل ضلالةً ، ولا يزالون يكررون علينا اعتراضَهم السقيم: إذا كنتم تدعون إلى الأخذ بالدليل ؛ فهل مذاهبنا هذه تأخذ عن التوراة والإنجيل؟! ، يَعنُون أن مذاهبهم تأخذ بالدليل أيضا ، وهذا حق في الجملة ، ولكن هذه المذاهب تفترق في المسألة الواحدة على أقوال كثيرة ، وقد يكون متعلَّقُ بعضِ هذه المذاهب في المسألة ظاهرَ البطلان من حيث الدلالة ، أو يكون ظاهر الضعف من حيث النقل ؛ فالداعي إلى اتباع الدليل يدعو إلى هجر ما كان ظاهر البطلان أو الضعف من الأقوال ، واقتفاء ما كان قويًّا وجيهًا ثابتَ النقل ، وليس اعتباطا وانتقاءً ، ولا يعني ذلك هجرَ المذاهب بالكلية وتركَ الانتفاع منها ، بل يكون اتباعُ الدليل باستعمالِ علوم الآلة التي درسها الدارس وأتقنها في ترجيح الحق من الأقوال ؛ إذ لا يحق لعالمٍ الاستدلال حتى يتقن علوم الآلة ويحسن استعمالها .. ثم إن بعض المذاهب لها أصول باطلة دحضها أهلُ السنة والحديث ، كبعض أصول الحنفية ، ولم يزل الأئمة يحذّرون من اقتفاء سبيل أهل الرأي الذين هم الحنفية ، وينهون عن اتباعهم وانتهاج نهجهم ، وأما هؤلاء الذين نراهم اليوم فهُم لا ينصرون الحق ولا يتقربون إلى الله بتحري الأقرب إلى الصواب ؛ بل يتحرى بعضُهم ما يوصله إلى الدنيا والقضاء ، ويتمذهبون بمذهب وُلاتهم تقربًا إليهم ، وهم في طريقتهم المذهبية أيضا على مبدأ: كل متمذهب اليوم مصيب ، وكل مجتهد مخطئ! .. ولو كان اعتراضهم الآنف: " إذا كنتم تدعون إلى الأخذ بالدليل ؛ فهل مذاهبنا هذه تأخذ عن التوراة والإنجيل؟! " صحيحا ؛ لوجب عليهم أن يتركوا تقليدَ كلِّ المذاهب إلى مذهب واحدٍ فقط ؛ إذ لو كان هذا الاعتراض صحيحا ؛ لصحَّ أن يعترض به أتباعُ أقدم هذه المذاهب على أتباع المذاهب التي جاءت بعدَه ؛ فيقولون: لِمَ تخالفوننا؟ ، فسيقولون: لأجل الدليل ؛ فيقول أتباع المذهب الأول: فهل وجدتمونا نأخذ عن التوراة والإنجيل ونترك الدليل؟! ؛ فوجب عليهم اتباعهم في مذهبهم لذلك! ، وهذا كلُّه باطل ؛ فالدعوةُ إلى ترك المذهبية لا تعني أن أصحاب هذه المذاهب لم يأخذوا بالدليل ابتداءً ، ولكنهم بشرٌ يخطئون وينسون ويخفى عليهم ما لا يخفى على غيرهم ؛ فكان التزام مذاهبهم التزامٌ بأخطاء أهلها ، وهذا لا يجوز ..

وإليك أقوالُ بعضِ أتباع المذاهب في المذاهب الأخرى ؛ لتقارن بين هؤلاء العبثية المعاصرين وبين أولئك السابقين الذين يتحرون الصواب ؛ فهذا أبو المعالي الجويني –رحمه الله- يقول في كتابه البرهان في أصول الفقه: " وأما مالك رضي الله عنه فكان تدواره على النصوص حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية من النصوص لا أدرى ، وقد اشتهر مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة ، وقدم مذاهب أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة .. وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا ؛ لأنه لم يعرف العربية حتى قال: لو رماه بأبا قبيس ، وهذا لا يخفى على من شدا أدنى شيء من العربية ، ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل سقيم ومخالفة كل صحيح ، ولم يعرف الأصول حتى قدم الأقيسة على الأحاديث ، ولعدم فقه نفسه اضطرب مذهبه وتناقض وتهافت " ..
وهذا أبو المظفر السمعاني –رحمه الله- يقول: " ذكرت في كتاب الانتصار طَرَفًا من تقديم طريقة أصحاب الحديث على أصحاب الرأي ... وذكرت أيضا في الكتاب الذي أسميته البرهان مسائل من أصول المخالفين يأتي على تشنيعات عليهم في أشياء اختاروها لا يصح ذلك على أصول الشرع " ، ثم قال: " وأما العامي الذي يقلد ويطلب الانتساب أيضا ؛ فالأولى له وبه أن ينتسب إلى هذا الإمام " يعني الشافعي –رحمه الله- ؛ فهذا السمعاني لا يخيِّر الناسَ في التمذهب اعتباطا كما يفعل هؤلاء ؛ بل يدعو إلى مذهب معين ظهر له باجتهاده أنه الموافق للحق والصواب ؛ فلم يستحل لنفسه أن يدعوَ الناس إلى غيره كهؤلاء ..
وقال الغزالي –رحمه الله- في المنخول: " وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد قلب الشريعة ظهرا لبطن وشوش مسلكها وغير نظامها " ، ومن قبلهم الشافعي –رحمه الله تعالى- فقد كان يكتب الكتب في الصد عن طريقة أهل الرأي الحنفية ، وقد ناظر محمد بن الحسن –رحمه الله- وبيّن له فضل مالك على أبي حنيفة –رحمهما الله- وأن أبا حنيفة لا يحسن تعاطي الكتاب والسنة فكيف يحسن القياس ؟ ؛ فجاء في آداب الشافعي ومناقبه " عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم: صاحبنا أو صاحبكم؟ ، يعني: مالكا وأبا حنيفة.
قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم.
قلت: فأنشدك الله، من أعلم بالقرآن: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، يعني مالكا.
قلت: فمن أعلم بالسنة: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم.
قلت: فأنشدك الله، من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتقدمين: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم.
قال الشافعي: قلت: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول على أي شيء يقيس؟ ! " ، وفيه عن: " الربيع بن سليمان المرادي، قال: سمعت الشافعي يقول: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ، ثم يقيس الكتاب كله عليها! " ، وعن: " محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: نظرت في كتب لأصحاب أبي حنيفة، فإذا فيها مئة وثلاثون ورقة، فعددت منها ثمانين ورقة، خلاف الكتاب والسنة " ؛ فهذا الشافعي –رحمه الله- ينكر طريقة الحنفية بخلاف هؤلاء الذين يقولون: اتبع المذاهب أيًّا كان! ، ثم يصيحون بالإنكار على من خالف بعض مذاهبهم وإن كان قوله الحق ..

وقد كان الأئمة ينصرون ما تبين لهم من الحق بدليله ، لا ينظرون في مذهب أهل البلد الذي هم فيه ؛ فقد كان مذهب مالك والليث –رحمهما الله- هو الغالب في مصر ؛ فلم يعبأ الشافعي –رحمه الله- بذلك لما انتقل إلى مصر ، وردَّ كثيرًا من مسائل مالك وانتصر لما رآه صوابًا ونشره مذهبَه المخالف لمذهب شيخه -حتى صار أشهب بن عبد العزيز يدعو عليه يقول: اللهم أمت الشافعي وإلا يذهب علمُ مالك- خلافًا لطريقة معاصرينا الذين يقولون: لا تخالف مذهب أهل بلدك والتزمه أيًّا كان! .. وكذلك كان مذهب أهل الرأي هو الغالب في العراق فلم يعبأ أحمد ابن حنبل –رحمه الله- ومن سار بطريقته بذلك ؛ بل انتصروا للحديث وأهله وردّوا مذهب الرأي وشنّعوا على أهله وحذّروا من الجلوسِ إليهم ..

وهنا الآن أضرب لكم مثلًا لمعاصرينا من المتمذهبة في بلادنا ؛ فهذه مسألة بحثها منتسبٌ للشافعية اسمُه النعمان الشاوي ممن أقام في بلادنا مؤخرا ، في مقطع قصير له حرص على تشويه منهج اتّباع الدليل بطرحٍ عبثي ، وأراد تزيين طريقةِ جميعِ المذاهب على السواء ؛ فوقع في خلاف مقصوده ..
تكلم الشاوي عن حكم القيام جماعةً في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ممن صلى التراويح في تلك الليلة ، ثم قال: " جواب السؤال على وفق الطريقة اللامذهبية الانتقائية التي ترفع شعار كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة سيئة محرمة ، وتنكر البدعة الحسنة ، وترفض القياس في العبادات ؛ فعند أتباع هذه المدرسة تكون هذه الصلاة بدعة سيئة يحرم فعلها " ، وفي جملته هذه مغالطات ؛ فالطريقة اللامذهبية ليست على منهج واحد ابتداء ، والطريقة اللامذهبية هي طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين من بعدهم ، وهي طريقة مالك والشافعي وأحمد –رحمهم الله- ؛ فما كانوا ينتسبون لمذهب معين ، وإنما لكلٍّ اجتهاده ، وما كانوا يُلزمون أحدا بطريقة معينة ، إلا أنهم يُحذّرون مما يرونه انحرافا في الطريقة والمنهج كما سبق ذكره .. وأراد بقوله " الانتقائية " المذمة ، وهي فضيلة ؛ إذ ينتقون من كل مذهب أحسنه وأوفقه وأقربه للدليل، ولا يأخذون الأقوال بالانتقاء الاعتباطي كما هو منهجه ؛ فأصحابه يرون أن لك أن تسير على مذهب من المذاهب الأربعة وتنتقي منها واحدًا اعتباطا بلا مرجح! .. ثم قال: " التي ترفع شعار كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة سيئة محرمة ، وتنكر البدعة الحسنة " ، وهذه كلمة حقٍّ -لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل بدعة ضلالة ، وقوله: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد- ، ولكنه فسَّرها تفسيرا باطلًا ؛ وكل عبادة لم يتعبد اللهُ تعالى بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فهي بدعة مذمومة سيئة ، ولا بدعة حسنة في الدين ، ولكن تنزيله هذه المقولة في هذه المسألة تنزيلٌ سقيمٌ بفهمٍ عليل ؛ فقيام الليل جماعةً عملٌ عمله رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبيّن أن صلاة الليل مثنى مثنى ، ولم يحد حدًّا ولا عددا لصلاة الليل بعد أن بيَّن وقتها المشروع –خلافا للشاوي ؛ إذ استمات في حدِّ التراويح بعشرين ركعةً حتى صار يستدل  بالقانون البحريني وبعمل الدول المجاورة في بحثٍ له منشور! ، كل ذلك في سبيل الانتصار للمذهبية- ؛ فإدخال هذا الأصل في هذه المسألة عبثٌ ولغوٌ ، وهو كقول قائلٍ: لم يُصَلِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لابسٌ الغترة ؛ فالصلاة بالغترة بدعة! ، وهذا عبثٌ ولغوٌ كسابقه لا يقوله عاقلٌ! .. والشاوي قد جعل صلاةَ القيام بعد التراويح بدعة بناءً على طريقة اللامذهبية ، وهذا باطلٌ ؛ فليست ببدعة على طريقتهم لما ذكرتُ .. وقد استدل بطريقة مضحكة بدليلين جَريًا على هذه الطريقة العبثية السقيمة أتركهما اختصارا .. وأما نسبته للامذهبية قاعدة: " لا قياس في العبادات " ، فهذه القاعدة من قول بعض المتمذهبة أصلًا ، وهو منسوب للحنفية في كتب الأصول ، وهو قول الكرخي منهم ، وله معناه الخاص ، ولكن النعمان أيضا يفسره بتفسير سقيم بناءً على فهمه هو للامذهبية ..

ثم أظهر لنا الشاوي تناقض المذهبيين حين تكلم في المسألة على طريقة المذهبيين ؛ فقال: " أما الجواب على وفق المدرسة المذهبية العريقة التي تأسست على قواعد مجتهدي الصحابة في الاستنباط ؛ ففي المذهب الحنفي تكره ... وفي المذهب الشافعي تستحب ... ، وفي المذهب الحنبلي تعرف هذه المسألة عندهم بالتعقيب ، ولا يكره التعقيب " ..

فجعل طريقة المذهبية على وفق طريقة مجتهدي الصحابة ، ولم يكن في الصحابة متمذهب واحد! ، ثم بناءً على طريقة مجتهدي الصحابة –في زعمه- وقع التناقض في المسألة على ثلاثة أقوال: الكراهة ، الاستحباب ، عدم الكراهة ؛ فإذا كانت طريقة مجتهدي الصحابة تقبل التناقض في الحكم الواحد وتختلف إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة أقوال ؛ فما عَتبُهم على طريقة اللامذهبية ، وما الضير لو زادت قولا واحدا في المسألة؟! ، على أن اللامذهبية يوافقون في أكثر المسائل أقوالَ بعض المذاهب .. وقد سبق نقل أقوال الأئمة في ردهم على الحنفية ورد طريقتهم المنحرفة في الفقه -قبل اكتمال مذهبهم بحاله الآن- ؛ فلم تكن قطُّ مبنيةً على طريقة مجتهدي الصحابة .. ثم مع إنكاره حكمَه هو في المسألة على طريقة اللامذهبية -بطريقته هو لا طريقتهم على التحقيق- وجدنا أن في مذهب الشافعية الذي يدعي الانتساب إليه تحريم إعادة الوتر جماعة لمن صلاها في التراويح جماعة كما هو اختيار الرملي –إن لم يكن هو المعتمد عندهم!- ، والقاعدة التي بنى عليها حكمَ الشافعية في هذه المسألة ، وهي: " النفل الذي تستحب فيه الجماعة كالتراويح مثل الفرض في استحباب الإعادة " استثنوا منها الوتر بخصوصه ؛ لحديث: لا وتران في ليلة .. قال في نهاية المحتاج: " (فَإِنْ أَوْتَرَ ثُمَّ تَهَجَّدَ أَوْ عَكَسَ) أَوْ لَمْ يَتَهَجَّدْ أَصْلًا (لَمْ يُعِدْهُ) أَيْ لَا تُطْلَبُ إعَادَتُهُ، فَإِنْ أَعَادَهُ بِنِيَّةِ الْوِتْرِ عَامِدًا عَالِمًا حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِخَبَرِ «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْي " ، وقال في الشبراملسي في حاشيته عليه: " (قَوْلُهُ: لَمْ يُعِدْهُ) أَيْ وَلَوْ فِي جَمَاعَةٍ، وَعَلَيْهِ فَيُسْتَثْنَى هُنَا لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ النَّفَلَ الَّذِي تُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُسَنُّ إعَادَتُهُ جَمَاعَةً " ؛ فعلى هذا فإن إعادة الوتر بعد صلاتها في التراويح محرم عندهم أيضا ، وأما القيام الذي بعد صلاة التراويح فهو زيادةٌ في قيام الليل لا إعادة للتراويح على التحقيق ؛ فقيام الليل وقتُه إلى طلوع الفجر ، ولا فرق بين صلاته جماعة أو فرادى ، متصلا أو منفصلا ومُجزَّأً ؛ فهل يَجرُؤ على الاستخفاف بهذا القول بعد أن تبين له أنه موجود في مذهب الشافعية ، وهل سيصفه أيضا بالانتقائي ويرده بالحرارة التي يرد بها على من لا يوافق منهجه ؟! .. ومن تلاعبه بالألفاظ الإنشائية قوله: " المدرسة المذهبية العريقة " وهي مدرسة لم تنشأ إلا بعد القرون الفضلى ، خلافا لطريقة اللامذهبية التي كانت هي الأساس قبل وجود هذه المذاهب المشهورة ..
أخيرا: سبق أن بيّنت في موضع آخر أن التمذهب وسيلةٌ للتدرج في العلم وآلة للوصول إلى الفهم ، لا أنه فرضٌ لازمٌ وشريعةٌ واجبة لا يصح الدين والفقه إلا من طريقها ؛ فالتمذهب بابُ تسهيلٍ وتيسير وتوضيح ، من سلكه اختصر طريقَ الفقه ، ومن تركه فسيصل إلى الفقه أيضا ، ولكنه يصل من طريق أبعد ، وفي كل المدارس والمذاهب الفقهية خيرٌ كثير ينتفع به ويستفاد ، والله هو الموفق والمستعان وعليه التكلان ..

تعليقات

المشاركات الشائعة