الرحلة القصيمية




من الرياض دعس صاحبي الوقودَ صباحًا إلى المطار حذرَ الفَوت ، وصلنا المطارَ لا دلالات واضحة للقاعات الداخلية والخارجية ؛ فأخذتنا ضيعةٌ حتى بلغنا المراد ..
أشعرني الجوالُ برسالة ، نظرتُ فإذا هو الخبر بتأخر موعد الرحلة ، تسنَّت بذلك لي الفرصة أن أشرب قهوةً ، ثم جاءنا إفطار يُنادى عليه باعتذار باسم شركة الطيران التي أخَّرت موعدَها .. أكلتُ الإفطارَ ، وقضيتُ في قراءة أدبيةٍ الانتظارَ ، حتى نُودي أن اصعدوا ، فصعدنا ؛ فنادى أصحابُ الطائرة: خلل فني يوجب علينا التأخير قليلا ، وكان قليلُهم نصف ساعة ولله الحمد ..
هبطتُ إلى القصيم بسلامٍ في أول رحلة جوّية إليها ، في طائرة كأنها تسير فوق رمال عالِج ، ولو كان مِلْؤها شرابًا غازيًّا لطاش في السماوات ..
مضيتُ مرتجِلًا كعادتي في الأسفار ، قصدتُ مكاتبَ تأجير السيارات ؛ فقيل لي: نحتاج إلى الفيزا كارد لتأمين المخالفات حتى تؤجّر ، وما كان لي من فيزا ، فسألتُهم حلولا فما أرشدوا ، فانطلقتُ إذن بسيارة أجرةٍ إلى أحياء بريدة في حرِّ الهجير ، وكانت كقريةٍ هجَرَها ناسُها .. هذا هو الموقع أرسله إليَّ صاحبي ، وقفتُ عند مسجد حيِّهم المجاور حين أذان العصر ولا مؤذِّن ، المسجدُ مقفلٌ ، أسمعُ الأذانَ النجديَّ الذي أطربُ له مِن هنا وهناك .. لعل المسجدَ مهجور! ، مشيتُ لذاك المسجد الذي يَبعد عنه خطوات! ؛ فإذا بي أسمع المسجدَ الذي حسبته مهجورا ينادي ؛ فعدت إليه ..
بعد السلام والأذكار انفتلتُ عن يميني فإذا بصاحبي الذي أراه أولَّ مرةٍ ، ظننته هو ؛ فعرفني إذ رآني مِن قبلُ فسلّم وحيّاني ثم قال: جئت على موعدك ..
- نعم أنا دقيق في المواعيد عادة ..
أخذني إلى مكتبته العامرة ذات الكتب المتنوعة والنادرة ، هذه لأبي ، هذه لجدي ، وهذه التوسعة ...
شربنا قهوتَه في حديثٍ لطيفٍ ثم قال: لعلك تاخذ في المكتبة نظرة ؛ فقلت له: كنت أرتقب هذه الفقرة ، فجوّلني فيها وأطلعني على بعض محاسنها التي يُغبط عليها ، ثم عدنا إلى مجلسنا وحديثنا وأخبرته بموعدي بعد المغرب في عنيزة ؛ فأخذ بي إليها وأخبرني: لا أعرف من طرقاتها إلا القليل ..
وصلنا إلى مسجد صاحبنا الآخر في عنيزة على موعدنا مع أذان المغرب ، صلينا فأمتعنا بحسن تلاوته ، ثم تلقّفني مُرحِّبًا بي في أول لقاء يجمعنا ، ثم قال: إذن معك فلانٌ ؟ خطر في بالي أنه هو لما أخبرتني أن معك صاحبا من بريدة! فسلّما ورحَّبا ببعضهما .. مشينا إلى منزله جوارَ المسجد ، دخلنا معه ، قال له البريدي: أنغلق الباب أم أن عنيزة أمان ؟ ؛ فقلتُ محرِّشًا: الخوف في بريدة .. ضيَّفنا صاحبنا فأحسنَ ضيافتنا أيّما إحسان ، واستغرقنا في حديث مؤنس حتى سمعنا نداء العشاء .. فأخبر صاحب بريدة بارتباطه واستأذن ، فقلت له: كتابي ، كتابي أهم شي ؛ وكنت تركته في سيارته ، فضحك وقمنا ، أخذت الكتابَ ، ودعناه ثم مضينا إلى الصلاة وكان قد بلغني إشعارٌ بتأخرِ الرحلة ساعة ، وزِيد عليها نصف ساعة بعد وصولي المطار إذ أخذني إليه صاحب عنيزة اللطيف بعد أن عرّفني على ابنه الودود وأهداني خيرَ ما يُهدى : كُتُبًا ..
ها أنا في الطائرة بعد التأخُّرَين ، أَنْحُتُ اقتضابَ هذه الرحلة جالسًا بين رجلين عن اليمين وعن الشمال ، كأن الذي عن يميني يخاف من الطيران ، وأمامنا امرأةٌ اجتمعوا عليها تهذي وتختنق من خوفها يحاولون تهدئتها وتعينها غيرها بالأكسجين ، ها هي الطائرة ترجف بلا استقرار  ..
كانت هذه الرحلة النجدية في زيارة اثنين ما عرفتهما إلا في وسائل التواصل ، ونعم الرجلان كانا ، معرفتهما غبطة ، ومجلسهما لا يمل حديثه .. وقد طَوَيت من التفصيل ما طويتُ ، مقتضى الحال .. وها أنا أسمع نداء الهبوط .. كان يومًا قصيميا بين صباحٍ ومساء ، وإلى لقاء ..

تعليقات

المشاركات الشائعة