مِن ذكرياتِ إنسانٍ سلبَهُ الماضي ..



هذا الإنسانُ صنيعةُ الماضي ؛ يَحِنُّ إليه دائمًا وأبدًا ، يُفتِّشُ عن رائحة الماضي في كلِّ زاوية ، تُعِيدُه إلى ماضِيه قصاصاتٌ صغيرةٌ كَتَبها في صِغَرِه أو كُتِبَت إليه ، لُعَبٌ خَزَنَها عنده يَنظر فيها بين فترةٍ وأخرى ، يستنشِقُ فيها ريحَ طفولَتِه التي صارت حبيسةَ جَنْبَيه بَعدَ أن كانت طليقةً تُداعِبُ ما حَولها ، قِطَعٌ تراثيةٌ احتَبَسها في غرفتِه التي هي غرفةٌ ومكتبةٌ في آنٍ ، هناك بعد الممر عن يمين الداخل فوق رفوف الكتب التي تبلغ إلى عضُدِ معتدلِ القامةِ ، ترى قطعةً صغيرةً من بابٍ تراثي ، وبانوشٌ كبيرٌ وآخر أصغر منه - والبانوش السفينة الكبيرة المصنوعة من خشب ذات الأشرعة - ، وهناك المذياع القديم أيضا ، قِطَعٌ متجاوراتٌ تحملُ فيها روحَ الماضي البهيج ، تنفُخُ فيه الروحَ إذا أذبلَ الحاضرُ روحَه ، ونكأَ جُروحَه .. ينقلُه إلى طفولتِه أبناءُ إخوتِه ... يستأذنُه ابنُ أخته أن يدخلَ مكتبتَه فيأذن له أحيانا ؛ فيدخل يسأل عن كل شيء ، يتأمل الكتبَ المبثوثةَ في الأرض والأرفف : ما هذا ؟
- هذه كتب ، أتعرف القراءةَ؟ ،
يهزُّ رأسَه : نعم ،
يمدُّ خالُه يدَه إلى أدنى كتاب ، يفتح أيَّ صفحة اتفقت - ولربما فتح على صفحة فارغة -: اِقرأ هذا ..
- لا أعرف ،
- تقرأها إذا كبرتَ إن شاء الله .. ويغلق الكتابَ ويضعه في موضعِه الذي لا ينساه على الأرض ؛ إذ لا مكان له ولغيره في هذه الرفوف الملْأىٰ ..
ينتقل ابنُ أختِه من سؤال إلى سؤال ، مؤجِّلًا مرادَه الأوَّل الذي كان يطلبُه كلَّ مرةٍ ، ويأبىٰ أن يقتنعَ بصِدقِ جوابِ خالِه ..
- خالي ، أين الجوال الموضوع في هذا الدُّرج؟! ،
- ‏ليس جوالا ؛ هو لاسلكي ،
- ‏لاسلكي؟! ، أين هو؟ ، أخرجه لي ،
- ‏ألا تذكر أني وضعتُه لكم مع الألعاب فأتلفتموه ؛ فرمتْهُ أمي في القمامة ؟ ،
- ‏افتحْ الدُّرج ؛ ربما نجِدُه ،
- ‏ليس في الدُّرج ، لم يعد موجودًا ..
- ‏اُنظر لعله هناك ،
- ‏لا ..
بعد أسبوع يتكرر هذا الحوار ، مِن بعد المقدمات الأخرى ...
هكذا الإنسان ، يَرفضُ الواقعَ ويُمنِّي نفْسَه بالأماني ويقطع حياته بالرجاء ، وبذا يعيش ، لا يُبقِيه إلا دافعُ الأملِ والرجاء ، ولا يُسَلِّيه إلا ذكرياتُ الماضي ..
تذكَّرتُ الآن أن هذا الإنسان كان يحِنُّ إلى ماضي غيرِه أيضًا ؛ فإذا قلَّبَ نظرَه في صفحاتِ التاريخِ ؛ وجدَ نفسَه مرّاتٍ في جامع قرطبة محتبيا في حلقةِ ابن حزم عند ذاك العمود منصتًا لكلامِه أحيانًا ، وجائلًا ببصره في عمارة الجامع أحيانا .. ويجد نفسَه مفترشًا الترابَ مع أهلِ الصُّفّةِ أحيانًا ، ويرى نفْسَه يَشكو لابن تيمية ضِيقَ السجن عليهما ، ويرى نفسَه في التيه يُواسي هارونَ عليه السلام ويُعِينُه في نصحِ قومِه ويقفُ صامتًا راهبًا غضبةَ موسى عليه سلام الله! ... وهكذا يجول في الماضي ويرى فيه نفسه! ..
هل الماضي جميلٌ حقًّا ، أو هو خيرٌ بالنسبة إلى السوءِ الذي يَعيشُه في حاضرِه؟ ، هل يتشوَّقُ الإنسانُ إلى الماضي وإن كان أشدَّ بؤسًا وأسوأَ حالًا ؟! ..
لا شك أن الماضي جميلٌ ، إما في واقعِه ، أو في متعةِ الحديث عنه ولو كان بئيسًا ، ولكن غدًا للمتَّقِين أجمل! ..

تعليقات

المشاركات الشائعة