لحظاتٌ في لقاءِ صديقٍ قديم! ..



هنا ..
أصبحت على رسالةٍ يسألني فيها: أتذهبُ إليه؟ ،
أجبته سريعًا بلا تفكير: نعم ،
- ربع ساعة أو أقل وأكون عندك ،
- ‏حياك الله ..
تهيأتُ وجلستُ مَشُوقًا أَتَرَقَّب ، وها هو بعد دقائق كأنها ثوانٍ يرسل لي: اخرج ..
خرجتُ إليه مرتديًا أشواقي ولَهفتي ، ركبتُ معه في السيارة منطلقين إلى ذلك الصديق القديم .. ما هي إلا دقائق معدودة قطعناها في السؤال عن الأحوال والجديد من الحوادث حتى وصلنا إلى وجهتنا .. نظرتُ إليه من بعيدٍ: كيف سيكون اللقاء؟! .. نزلتُ فقال لي صاحبي: تقدَّمْ أنتَ إليه وسألحق بك بعد قليل - كأنه يريد أن يَدَعنا نواجه بعضَنا وحيدين ، نُطلق سجيتنا ، ونجدد عهدنا كما شئنا - ..
خلعتُ نَعلَيَّ ومشيتِ إليه أجرُّ خطايَ وأقلبُ الأنظارَ في الرمال المتمَوِّجةِ: كيف سيكون اللقاء؟! .. أدنو بخطواتٍ لها حَسِيسٌ كحسيس عقاربِ الساعاتِ وهي تَعُدُّ الثواني ! ..
رفعتُ رأسي إليه ونظرتُ في أعماقِه صامتًا ، وأخذتُ أتعمقُ فيه بحذرٍ وتوَجُّسٍ ، كلانا صامتٌ لا يتكلم ، دنوتُ منه حتى امتزجتُ فيه وصرنا كالجسد الواحد ، بدأ يَهِيجُ ويضطربُ ، أَخذَ يَدفعُ في جسدي غاضبًا غضبةَ العاتب المحب وأنا أدافعُه وأسَكِّنُه وهو يتمادىٰ في هيجانِه ، لا ينطقُ إلا بثورَتِه علَيّ ، ودفْعِه في كَتِفَيّ ، حتى أَيِستُ مِن تهدئتِه ؛ فالتفتُّ أبحثُ عن صاحبي الذي أخذني إليه ، ردَّدتُ النظرَ قليلًا حتى رأيتُه قادِمًا هناك من جهة المشرقِ حيث شعاع الشمس .. سريعًا وصلَ صاحبُنا فقلت له: اُنظرْ إليه ؛ إنه سَيِّئُ الأخلاق اليوم! .. ضحك إليَّ وقال: إنه كذلك! ،
- أتدري متى كان لقاؤنا الأخير؟ ،
- ‏لا
- ‏كان قبل عشر سنين ، معك في مثل هذا المكان! ،
- ‏عجيب عجيب ، ولم تأت إليه بعد ذلك أبدًا؟! ،
- ‏بلى ، ولكنِّي لم أَقتربْ منه ، أمرُّ عليه مرورًا ، أقف عنده مستمعًا أحاديثَ نفْسِه ، وتنغيماتِه أحيانًا ؛ أتعلم: إن ألحانَه تَنفذُ في النفسِ ، وتُهَيِّجُ المشاعر ، وما أرى غضبتَه هذه إلا مِن آثار هذه النغمات! ....
لقد كان الصديق الأوّل ؛ كنتُ في صِغَرِي - لَمَّا كان جارًا لنا - آتِيه وأرى فيه المستقبلَ والماضي ، أرى فيه ما لا يراه أحدٌ غيري ، أتأملُ في أحوالِه كلِّها ، وأحدثُه ببعضِ أسراري ، أسرارٍ صغيرة ، كأسرار سائر الأطفال التي يحسبونها خطيرة ، نعم هي خطيرةٌ ولكن في عالمِهم الصغير ، في كهفهم الحالِم ... كنت آتيهِ مُخَلِّفًا همومي الصغيرات ، أنسى عنده كلَّ شيءٍ ، وأبني فيه سفني الصغيرة التي سأرحلُ عليها في بحار العالَمِ كلِّه .. كنت أصيدِ فيه أثمنَ صيدٍ ، سمَكاتٍ وسرطان بحرٍ ، أرجع به إلى البيت منتصرًا فرِحًا أضعُه بين يدي أمي قائلًا: أمي أمي ، هذا غداؤنا اليوم ..
إنه البحر! ..

تعليقات

المشاركات الشائعة