من مذكرات زوجة دوستويفسكي ..

هذه ‏قراءة في مذكرات زوجة دوستويفسكي ، هي من أمتع المذكرات التي قرأتُ .. سأنتقي منها وأختصر ، وسأتصرف في العبارة كثيرا ..

افتتحتها آنّا دوستويفيسكيا بقولها: لم تَرد من قبل بخاطري فكرة كتابة مذكراتي ، ظللت طوال حياتي منشغلة بشدة بإصدار مؤلفات زوجي خالدِ الذكرِ ، لم يكن لدي وقت كاف للاهتمام بشيء آخر ..

‏كتبتْ وجمعت مذكراتِها وهي في السبعين ، واعترفت بوجود أخطاء أدبية - ممتعة ولم ألحظ العيوب - كإطالة السرد وتباين الفصول والأسلوب ، وقالت: " المرء وقد بلغ السبعين يصعب عليه أن يتعلم أشياء جديدة " قالت: يغفر لي هذه الزلات إخلاصي ورغبتي في تقديم حياة دوستويفسكي الشخصية كما هي ...‏ ولدتْ آنّا في يوم عيد ، وكان أبوها صاحب نكتة وابتسامة دائمة ، ويسمونه ( روح الصحبة ) ولم يصدق الناس خبرَ ولادتها ظنا منهم أنها من دعابات أبيها حتى أكدت جدتها الخبرَ! ... في زواج والدَيها ذكرت أن الخطّابات أحضروا لها شابَّين في بعض لقاءات العائلة ، وأعجبا بها جدا ، ورفضتهما لما سئلت عنهما وقالت: كلا إنما يعجبني أكثر هذا العجوز الذي يتحدث كثيرا ويبتسم طوال الوقت.. كان عمره 42 ، أُخبر بذلك ففرح وأكثر من زيارتهم حتى تعلقا وتزوجا بعد أن غيرت دينَها لأجل الزواج والارتباط به ..

‏تقول آنّا: أتذكر طفولتي كلها وشبابي بإحساس بالرضا والسعادة الغامرة ، وتقول: على الرغم من أنه قُدّر لي تحملُ الكثير من المصاعب المادية والآلام المعنوية ؛ فإنني أظن أن حياتي كانت سعيدة للغاية ...

‏التحقت في دراستها بقسم الفيزياء والرياضيات ، ثم تبين لها أن تعلقها كان بالأدب ؛ فكانت أثناء التجارب العلمية تقرأ في الروايات ، وكان يغمى عليها في محاضرات التشريح وتشمئز ، ولا تذكر من محاضرات الجامعة سوى محاضرات الأدب الروسي ، ثم تركت الدراسة للقيام على رعاية والدها المريض ، ‏تقول: " آليت على نفسي أن لا أدع هذا المريض العزيز على نفسي لحظةً واحدة " ، " ولما كان أبي يعاني من الأرق رحتُ أقرأ عليه على مدى ساعات روايات ديكنز ، وكنت أشعر بالرضا إذا أخذته سِنة من النوم إثرَ قراءتي الرتيبة " ..

‏تعلمتْ آنّا علمَ الاختزال ( اختصار الكلام برموز ) ، وأثناء دراستها عرض عليها أستاذها العمل في الاختزال ؛ فأبدت رغبتها بشدة رغم شكها في كفاءتها ، فهدأَ روعَها ، فسألت: عند من سأعمل؟ ؛ فأجابها: لدى الكاتب دوستويفسكي ؛ إنه مشغول برواية جديدة (المقامر) يحتاج فيها لمختزل. أسرعت بالموافقة ...

 ‏تقول آنا " كان اسم دوستويفسكي معروفا عندي منذ طفولتي ، وكان الكاتب المفضل عند أبي ، وأنا كنت معجبةً بأعماله ، وطالما ذرفت الدموع وأنا أقرأ (ذكريات من منزل الأموات) ، لم يكن الأمر مجرد التعرف على كاتب موهوب ؛ بل مساعدته في عمله هو ما أثارني للغاية وغمرني سرورا " ..

‏أخذت آنا عنوان دوستويفسكي في ورقة صغيرة مطوية ، رجاها أستاذها أن تصل عند الكاتب في الحادية عشر والنصف ( لا قبلها ولا بعدها ) كما طلب دوستويفسكي بنفسه ذلك. فرِحَتْ بهذا وبثقة معلمها الصارم المتعنت " أسعدني ذلك كثيرا ، ورفع قيمتي أمام نفسي " تعني ثقة معلمها بكفاءتها ...‏ تقول آنا بعد هذه اللحظة التي ستكسب فيها المالَ بنفسها: " كانت فكرة الاستقلال هي أعز وأغلى فكرة لدي " .. عادت إلى البيت ، أخبرت أمَّها بتفصيل ما جرى ؛ فأسعدها ذلك .. باتت آنا ليلتها مسهدةً بسعادتها واضطرابها ، لا تتخيل سوى دوستويفسكي ، تتخيله رجلا عجوزا ، وعبوسا شديدا حتما! ..

‏تقول آنا: كان يبدو لي دوستويفسكي عالمًا شديد الذكاء ، الأمر الذي كان يثير خوفي عند كل كلمة سأنطق بها ، ولعل من الأمور المكدرة أني لم أكن أتذكر أسماء أبطال رواياته بدقة ، وكنت على يقين من إتيان ذكرهم معه ، وكنت أيضا لم ألتق سلفا بأدباء بارزين ؛ فكنت أتصورهم كائنات من نوع آخر! ...

‏تقول: " عندما أتذكر تلك الأوقات أراني كطفلة صغيرة حينَها ، على الرغم من سنوات عمري العشرين! " .. استيقظتْ صباحا يخامرها اضطراب لذيذ إذ سيتحقق حلمها اليوم .. غادرت منزلها مبكرا ، اشترت أقلام رصاص إضافية وحقيبة صغيرة تُضفي على هيئتها مظهرا عمليا أكثر ، ثم سارت بخطى مهملةٍ ...‏ تقول: حتى أصل إلى دوستويفسكي لا قبل ولا بعد الموعد المحدد (لا قبل ولا بعد: عبارة معتادة لدوستويفكي يضيفها بعد ضربه للمواعيد آملًا أن لا يضيع وقته منتظرًا!) ، مشيت بخطى مهملة لا أكف عن النظر في ساعتي. وصلتْ قبل خمس دقائق ، رأتْ البيتَ فذكّرها ببيت راسكولنيكوف في (الجريمة والعقاب)...

رقت آنا إلى الدور الثاني حيث كانت شقة دوستويفسكي ، قرعت الجرس ، فتحت البابَ الخادمةُ العجوز ذات الشال الأخضر الذي حسبته آنّا الشالَ المذكورَ في (الجريمة والعقاب)! .. سألت الخادمةُ عمن تود آنا مقابلته فأخبرتها الخبرَ فأدخلتها إلى غرفة الطعام التي وصفتها جزءًا جزءًا ، وبعد دقيقتين من الموعد ظهر دوستويفسكي فدعاها إلى المكتب وغادرها ليأمر بتقديم الشاي ..
وصفت آنا فيما وصفت به غرفة مكتب دوستويفسكي بأنها تترك في النفس انطباعا ثقيلا ، معتمة ، يخيم عليها الصمت ، تنقبض فيها النفوس لعتمتها وصمتها! ..
معتذرًا دخل عليها دوستويفسكي لتأخره فسألها مباشرةً: هل تعملين في الاختزال منذ مدة طويلة ؟
- منذ نصف عام لا أكثر ،
ثم سأل عن عدد المتعلمين معها ، وهل بقي عددُهم كما كان في بداية الدراسة ؛ فأخبرته بتناقصهم ؛ فقال:
هذا ما يحدث عندنا في كل جديد ؛ يبدأون بكل حماس ، ثم ما يلبث حماسهم أن يفتر بضعةَ أيام ؛ فيتركون الأمرَ برُمّته! .. ينتظرون فإذا بالعمل يتطلب جهدا ، ومن يرغب الآن في بذل الجهد؟! ...
تقول آنا: للوهلة الأولى بدا لي متقدمًا في العمر كثيرا ، ولكن ما إن بدأ في الحديث حتى أصبح أصغر عمرا ، ورأيت أنه من المرجح أن يكون تجاوز الخامسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين ، ثم وصفتْه بدقة حتى اختلاف لون عينيه واتساع حدقة إحداهما دون الأخرى (بسبب نوبة صرع) ...
دخلت الخادمة بعد خمس دقائق تحمل كوبين من الشاي الثقيل ، حتى إن لونه كان أسود تقريبا! وفي الصينية قطعتا خبز ، تناولته كارهة حتى لا تبدو متكلفة ؛ لم تكن تريد الشاي مع حر جو الغرفة ...
تقول: كان يجلس إلى مكتبه تارة ثم ما يلبث أن يقوم ليذرع الغرفة وهو يدخن، وكثيرا ما يطفئ سيجارته ليشعل أخرى غيرَها .. عرض عليها التدخين فرفضت ؛ فقال: لعل رفضك تأدبًا؟ ؛ فأكدت أنها لا تدخن وقالت: " لا أحب رؤية السيدات وهنّ يدخنّ! " ..
تقول: اتسم حديثنا بالصراحة ، وقد أدهشتني هذه الصراحة ، بدا عليه الانكسار ، وأخبرني بإصابته بنوبة صرع قبل أيام ، ثم تحدث عن عملهم حديثا مبهما ، وقال: سنرى هل يمكن ذلك؟! ...

(صورة مكتب دوستويفسكي الذي كان يكتب فيه)


شرعَا في العمل ، أسرع في القراءة فطلبت منه الإبطاء ، طلب منها إعادة حل ما اختزله ؛ فانزعج لبطئها رغمَ سرعة حلِّها! فهدأت روعه وأخبرته بالحل ...
تقول: كان مضطربا غير قادر على جمع شتات أفكاره ، يذرع الغرفة طويلا ذهابا وإيابا حتى كأنه ينسى وجودي ، وتارة يسألني عن اسمي ثم ينساه على الفور ، ثم أخبرها أن حالته لا تسمح له بالإملاء عليها الآن فضرب لها موعدا آخر .. تقول: قال لي وهو يودعني: أسعدني أن أولخين (أستاذها) اقترح علي آنسة مختزِلة وليس رجلا ، أتعرفين لماذا؟
- لماذا؟ ،
- ‏لأن الرجال في الغالب يسرفون في الشراب ، وأنت آمل أن لا تكوني ممن يشربون!
قالت: كان الأمر مضحكا بالنسبة لي ، كتمت ضحكتي وأجبت بجدية: أنا يقينا ممن لا يشربون ، كن على ثقة من ذلك! ..
عادت في الموعد الجديد وراح يسألها من جديد عن اسمها وكنيتها ، ثم استفصل عن حالها وأسرتها ووو ... تقول: فأجبته بكل وضوح وجدية على كل أسئلته ، وبخشونة أحيانا كما قال لي هو بعد ذلك! ..
أعجبني قولها في هذا الموضع: قررت إذا عملت في بيوت خاصة أن أحدد علاقتي منذ الدقيقة الأولى بيني وبين من لا أعرفهم جيدا على نحو عملي ، مع تجنب رفع الكلفة حتى لا تدفع البغبة أحدا من الناس أن يوجه إليّ كلمةً زائدة أو وقحة ؛ حتى أنني لا أءكر أني ابتسمت مرة واحدة وأنا أتحدث مع فيودور ميخايلوفيتش (دوستويفسكي) وقد أعجبته جديتي ، وقد اعترف لي فيما بعد أنه كان مدهشا بسرورٍ من قدرتي على التماسك ولما كنت أتمتع به من رزانة ..
في هذا المجلس الثاني بعد الحديث معه تقول: خيّل إلي فجأة أنني أعرفه منذ زمن بعيظ ، مما جعلني أشعر السكينة والارتياح ... حدثها في اللقاء هذا عن حادثة حكم الإعدام ، وحاله عند منصة الإعدام الذي كان يقف أمامه منتظرا دوره ، وتداعيات ذاكرته لحظتئذ ، قتلوا أمامه ثلاثة ، ثم صدر حكم العفو عنهم إلى السجن ، وكان نصيبه أربع سنوات مع الأعمال الشاقة ...
تقول عنه: تركت حكايته انطباعا شديدا في نفسي ، اقشعر بدني ، أدهشتني قوة هذه الصراحة معي أنا الفتاة التي يراها للمرة الأولى في حياته .. هذا الرجل الذي يشي مظهره بالكتمان والقسوة يقص علي ماضي حياته بكل هذه التفاصيل ... كان وحيدا تماما ، محاطًا بشخصيات تكن له العداء .. ثم أملى عليها طويلا حتى تعب وأُرهق وصار يذهل فكف وودعها ..
عادت إلى البيت بسعادة غامرة ، أخبرت أمها بما جرى ، وأخفت على أمها حزنَها من حال دوستويفسكي: أخفيت عنها هذا الإحساس الثقيل بالهم والذي لم أشعر بها في حياتي من قبل ، كان انطباعا مؤلما تماما ؛ فللمرة الأولى في حياتي أرى إنسانا ذكيا دمثا ، ولكنه تعيس ، إنسان هجره الجميع ، فتولد عندي تعاطف عميق وأسى بالغ ..
بعد توطد علاقتها ومدة من هذه الأحداث ، دار حديث بين آنا وأختها فقالت لها أختها: أنت مغرمة بدوستويفسكي ، لكن أحلامك لا يمكن أن تتحقق ..
تقول: اعترضت بشدة وقلت: إنني لست معجبة على الإطلاق به ولا أحلم بشيء ، كل ما هنالك أنني سعيدة بتبادل الحديث مع شخص ذكي وموهوب ... على أن كلمات أختي كدرت صفوي ، ثم رحت أتساءل لما عدت إلى البيت: هل أختي على حق؟ هل أنه مغرمة به حقا؟! أليست هذه بداية الحب الذي لم أجربه؟! يا له من حلم مجنون من جانبي ...
على كل حال ، كان دوستويفسكي قد تعلق بآنا وصار يفتقدها إذا غابت أو تأخرت ، حتى قال لها إنه كاد أن يأتيها البيت ؛ فرحبت بهذه الفكرة ...
في الثامن من نوفمبر 1866 أخبرها دوستويفسكي أنه يحبها وطلب منها الزواج ، تقول: هذا أحد أهم الأيام في حياتي ؛ نصف قرن مر على هذا اليوم وما تزال تفاصيله واضحة في ذاكرتي وكأنها حدثت منذ شهر مضى! ...
نسج لها حكاية من خياله قبل طلبه حتى وصلا إلى نقطة النهاية ، كان بطل قصته هو ، وبطلتها هي ، وكان السؤال الحاسم: هل تؤمنين بحق أن باستطاعتها أن تحبه بإخلاص طول العمر؟ ، صمتَ برهةً مترددا ثم قال بصوت متهدج:
ضعي نفسك مكانها ، وتصوري أنني هذا الفنان (البطل الذي رسمه في قصته) ..
قالت حينها: أدركت أن حديثنا ليس بالحديث المتعلق بالأدب ، وأنني سوف أهوي بضربة قاصمة تصيبه في عزة نفسه وكبريائه فيما لو جاءت إجابتي مراوغة ،
ثم قالت: كنت سأجيبك أنني أحبك ، وسوف أحبك مدى الحياة! ...
كان فارق السن بينها قرابة 25 عاما ، كان كثير الهموم ، شديد المرض ، أرهقته الديون ، لم يمنعها ذلك من القبول به ..
إلى هنا أتوقف عن سرد حكايتهما ، وقد حذفت من التفاصيل أكثر بكثير مما أبقيت .. وهذه بعضُ اقتباساتٍ أعجبني من هذه المذكرات:
دوستويفسكي لماذا لا تتذكر سوى الأحداث التعيسة؟ الأفضل أن تحكي لي عن الأوقات التي كنت فيها سعيدا .
- ‏سعيد؟! أنا لم أذق طعم السعادة في يوم من الأيام ، أو على الأقل: لم أستشعر تلك السعادة التي حلمت بها ما زلت أنتظرها! ..
•  سألها: أي زوجة عليّ أن أختار ، الذكية أم الطيبة؟ ،
- ‏الذكية طبعًا ،
- ‏أبدًا ، إذا كان علي أن أختار فسأختار الطيبة التي تحنو عليّ وتحبني ..
• دوستويفسكي: الاحترام وحده لا يصنع زواجا سعيدا ..
• دوستويفسكي: لا أرتاد المجتمعات أو المسارح إلا نادرا ؛ ما جدوى هذه اللقاءات إذا لم يستطع المرء أن يقول أحيانا ما يريد ..
• دوستويفسكي: إن للأحلام (الرؤى) أهمية كبرى لديَّ! ..
• دوستويفسكي: هل يمكن أن يحب المرء لمجرد المظهر والثروة؟! ..
• تقول: لمّا كنت على علم بظروفه المادية ؛ حاولت إقناعه بألّا يحضر معه أي حلوى ، ولكنه كان يرى أن هدايا الخطيب إلى خطيبته عادةٌ قديمة حسنة ينبغي الحفاظ عليها! ..
• قلت له: أود أن أعرف كل شيء عنك ، أن أرى ماضيك بوضوح ، أن أدرك روحك بأسرها! ..
• تقول عن دوستويفسكي: لم يكن يذهب إلى المسرحيات الهزلية ، ولم يكن يسمح لي بمشاهدتها! ..
بعد زفافنا كان يتخير لي الكتب بنفسه ، ولم يكن يسمح لي مطلقا أن أقرأ الروايات العابثة ، يقول: ما الداعي إلى تلويث مخيلته ..
• تقول: عندما تزوجت كنت ربة بيت بالغة السوء ، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنني قضيت سبع سنوات في الثانوية ثم في التعليم العالي ثم في دروس الاختزال ؛ من أين لي إذن أن أتعلم شؤون البيت؟! ..
لا أجد صديقا صديقا أستأمنه على أفكاري وآمالي ومخاوفي سوى يومياتي ..
كان دائما ما يعود من الروليت شاحبا هزيلا (بالمناسبة: لم يأخذني معه مرة واحدة ؛ إذ كان يرى أنه لا مكان لامرأة شابة في صالة للقمار) ..
وقد وحّدت بيننا أحزاننا المشتركة العميقة ، وأحاديثنا الصادقة التي انكشفت لي من خلالها أسرار روحه المعذبة ، وحدت بيننا أكثر فأكثر ..
• دوستويفسكي: إنه لأمر شاق على النفس أن يعيش المرء في عزلة تامة عن الناس ، أذكر أنّ فكرةً خطرت برأسي: أن الناس الذين يعيشون في هذه العزلة المطلقة والاغتراب ، يمكن أن يصلوا في النهاية إلى كراهية بعضهم ، أو يندمجوا معا ما تبقى لهم من عمر ..
رأى دوستويفسكي أن من المفيد للغاية أن يعيش المفكر أحيانا في حالة من العزلة بعيدا عن الأحداث الجارية التي تثير فيه الاضطراب دائما ، وأن ينطلق تماما مع أفكاره وأحلامه ..
كان لمظهري المتحفظ ، وتجنبي لمجتمعات الرجال أثر طيب على زوجي ..
من أكثر الأشياء مَدعاةً للأسف أن نصف هذه المصائب كان من الممكن تجنبها لو أننا وجدنا من بين أصدقاء زوجي أناسا طيبين لديهم الرغبة في أن يأخذوا بيده! ..
لقد اضطررت أن أخفي عنه كل شيء بإتقان ، وأن أُبعد عنه كل ما من شأنه أن يثير قلقه واضطرابه أو يسبب له الحزن ، مخاطِرةً بذلك أن أبدوَ أمامه امرأةً تخفي عنه أسرار. كم كان عملًا شاقا! ، وقد كان عليّ أن أعيش هذه الحياة ثلاثة عشر عاما تقريبا! ..
الله يهب الصبرَ بقدْر المصيبة! ..
• ‏لمّا كان دوستويفسكي صادقا في حديثه وتصرفاته ، يعبر عن رأيه دون موارَبة ؛ فقد خلق له ذلك أعداءً في عالم الصحافة ..
كنت من النادر في هذه السنوات أن أذهب إلى المناسبات الاجتماعية ؛ إذ كان أطفالي ما يزالون صغارا ، وكان من الخطر تركهم في رعاية المربية! ..
• ‏كان رفيق دوستويفسكي في الزنزانة صاحب حرفة ينام ساعات طويلة نهارا ؛ مما أتاح لزوجي أن يعيد قراءة (البؤساء) لفيكتور هيجو ، وهي من الأعمال التي كان يقدرها تقديرا رفيعا. "رائع أنهم حبسوني" قال زوجي بمرح! ، وإلا لما تمكنت مطلقا من تجديد انطباعاتي القديمة الرائعة عن هذا العمل العظيم! ..
• ‏الهدوء والسكينة العائلية التي لا تعكر صفوها مفاجآت الحياة -التي نعيشها هنا- أهم وأغلى عندي من كل ما عداها ..
• ‏لم أشاهد من قبل ولا من بعد إنسانا عطوفا على الأطفال مثل زوجي ؛ بإمكانه أن يَنفذَ إلى ما في عقول الأطفال قادرًا على تسليتهم بحديثه إليهم. في هذه السويعات كان فيودرو يتحول هو نفسه إلى طفل! .. كانت لدى زوجي موهبة خاصة في التحدث إلى الأطفال ومعرفة ما يثير اهتمامهم ، يكسب ثقتهم -وهو ما كان يحدث أيضا مع الغرباء من الأطفال الذين يلتقيهم صدفة- ، وهكذا يروح يسلي الطفل فتسودُه البهجة ويصبح مطيعا! ..
• ‏كلما امتد بي العمر بكل ما حمَّله من أحزان ؛ انفتحت أمامي -وعلى نحوٍ أرحب- آفاقُ أعمال زوجي ، ورحت أفهمها فهما عميقًا ..
• ‏لم نكن نتحدث مطلقا أثناء الغداء في أية موضوعات جادة لا يفهمها الأطفال ..
• ‏كم غضُّوا البصرَ عن أناسٍ سيِّئي السمعة ، أما أنا فيرتابون فيَّ ويراقبونني ، أنا الرجل المخلِص بقلبه وأفكاره للقيصر والوطن! ..
• ‏لحسن الحظ أن المكان لم يكن مضاءً بصورة مناسبة ؛ وإلا لشاهدَ الناسُ سيدةً محترمةً لا تجلس على المقعد المخصص للجلوس في العربة ؛ وإنما فوق حقيبة! ، ويا له من منظر غير لائق بالمَرَّة! ..
• ‏دوستويفسكي: اندفاعك سيقودك إلى هلاكك. كان فيودرو يرى أن اندفاعي أو ميلي لاتخاذ قرار خاطف في ثانية واحدة ووضعه موضع تنفيذ دون إمعان التفكير في نتائجه : هو أكبر عيوبي ، وقد أشار إلى ذلك في بعض خطاباته إليّ ..
• ‏فيودرو لم يكن كاتبا موهوبا فحسب ؛ ولكنه رب أسرة بالغ الحنان والعطف ، يمثِّل له كل ما يحدث في البيت أهمية كبرى .. كانت هذه العناية الفائقة من جانب زوجي بأُسرته تمس دائما شغاف قلبي بقوة ..
• ‏كانت أحاديث زوجي شيقة للغاية ، وكان له أسلوب في الحكيِ شديد الجاذبية إلى حد أنه كان يغنيني تماما عن صحبة الآخَرين! ..
• ‏كان فيودرو يعلم بوَلعي بالتفاصيل ؛ ولهذا لم يكن يبخل علي بها ؛ فيخبرني بكل ما دار من أحاديث ، وأروح أنا أستوضحه: حسنا وهي ماذا قالت لك، وأنت بماذا أجبت!...
• ‏كثيرا ما عبّر لي عن ضرورة أن أمتلك ثوبًا مثل ثوبٍ كان قد أُعجِبَ به .. كان حلمه أن يراني في ذروة الأناقة ؛ كان ذلك يَسرُّه أكثر مما يسرني .. كان يشعر بالسعادة الغامرة إذا أعجبتني هداياه .. كنت أَقبلُها معبرةً له عن سعادتي الكبرى ، على الرغم من أنني كنت أشعر أحيانا بشديد الحزن لتبديد المال في أشياء ليست ضرورية على الرغم من جمالها ..
• ‏عندما سألته: لمَ لم يوقظ الخادمة ؛ أجاب: من الظلم أن أوقظها ؛ إنها تكدح طوال اليوم ؛ تركتها لتستريح. على هذا النحو كانت علاقة زوجي بالخادمة ؛ حتى إنه لم يكن يكلفها عناء بعض أموره الشخصية ؛ فيتولى بنفسه إنجازها ..
• ‏زوجي في غاية الطيبة ، وهو لا يملك القدرة على رد من يطلب المساعدة على قدر إمكاناتنا بطبيعة الحال ؛ أحيانا عندما يطلب أحدُهم صدق  ولا يكون لدى زوجي بعض النقود الصغيرة ؛ فإنه يقود الفقراء إلى شقتنا وهنا يعطيهم المال .. كان يستجيب لهم دائما رغم علمه بأنهم يختلقون أسبابا ملفقة للتسول ..
• ‏كان يدهشني دائما أن فيودرو الذي كان يغضب لأتفه الأسباب في الحياة العادي  يبدو رفيقا سهل المعشر شديد التحمل في السفر! : يوافق على كل شيء دون أن يبدي أي نوع من التذمر أو يصر على بعض المطالب ..
• ‏أحيانا تكفي نظرة واحدة لتنطبع صورة الإنسان في القلب طول العمر ..
هذا ، ومذكرات آنّا ممتعة وحافلة بالفائدة والسرد الجميل ، وهذا بعض ما تسنى لي قطفه لكم من مذكراتها ، ومن شاء منكم المزيد فعليه بالتهامها .. وإلى لقاء ..

تعليقات

المشاركات الشائعة