غِراسُ الغافلين! ..



غِراسُ الغافلين! ..
رُوِّينا في صحيح البخاري -أصحِّ كتابٍ في الدنيا بعدَ كتابِ الله عز وجل- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « إنّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمة مِن رضوان اللهِ لا يُلقي لها بالًا ؛ يَرفعُه اللهُ بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة مِن سَخَط اللهِ لا يُلقي لها بالًا ؛ يَهوي بها في جهنم » ..

هذا غراسُ الغافلين .. فأمّا غفلةُ الصالحِين ؛ فأكرِم بها مِن غفلةٍ ؛ فليست بغفلة عن شرع اللهِ ولا عن طاعته سبحانه ، وإنما هي الغفلةُ عن آثار أعمالهم التي عملوها بمقتضى إيمانِهم ؛ فصار بعضُ عملِهم سجيةَ نفوسِهم ، فقد يوَفَّقون لِقَولَةٍ يقولونَها أو فَعلةٍ يفعلونها ؛ فتكون لها الآثار العظيمة ؛ فهذه الغفلةُ غِراسُها الأزهارُ وأطايِبُ الأشجارِ ، يُلقِي أصحابُها بذورَها مِن حيث لا يشعرون وهم في دروبهم سائرون ؛ فتُنبتُ وتُزهر وتُثمرُ وتزدانُ وتَنفعُ أُمَمًا مِن بَعدِهم ينالون بها الثوابَ الجزيلَ ؛ فلهم أجرُها وأجْرُ مَن انتفعَ بها كما أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح إذ يقول: « مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجرِ مثلُ أجورِ مَن تَبِعَه ، لا يَنقُصُ ذلك مِن أُجُورهم شيئًا » ؛ هنيئًا لهم واللهِ هنيئًا ، وإنّ العاقلَ لَيَغبِطُ هؤلاءِ على ما نالوهُ مِن الأفضالِ والمَنازلِ العاليةِ التي قد يَسعىٰ لها بجهدِه ؛ فلا يُبَلَّغُها ، وقد نالَها أولئك وهم عنها غافلون ..

وإنّ التاريخَ قد حفظَ لنا مِن أقاصيصِ غِراسِ الغافلينَ ما حفِظَ ، فمِن ذلك ما رُوِّيناه في الصحيح عن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ -رضي الله عنه- قال: " سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ في المغربِ بالطُّورِ ، فلمّا بَلَغَ هذه الآيةَ: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ ﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ﴾ ﴿ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ﴾ ؛ كادَ قَلبِي أنْ يَطِيرَ " ، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مِن الغافلين ؛ بل هو إمام الذاكرين المخلصين الحاضرين بِنِيَّاتهم وقلوبهم ، وإنما كان غافلًا عن استماعِ جبيرٍ إلى تلاوته ؛ فكان لها هذا الأثرُ العظيمُ ، وتأمّلْ في كلمةِ جبير " كاد قلبي أن يطير " وانظر إلى عظيمِ الأثرِ مِن آياتٍ استمع إليها وهو عابرٌ ، وكان ذا قلبٍ حاضرٍ ؛ فكم كلمةٍ عظيمةٍ تمُرُّ على المرءِ وهو لا يشعر ، ثم تمرُّ عليه وهو حاضرُ القلبِ ؛ فتقعُ في قلبِه موقعًا عظيمًا .. ويبدو -والله أعلم- أن هذه الآيات التي استمع إليها من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت سببَ إسلامه كما أشار إلى ذلك ابن كثير -رحمه الله- ..

ومِن قصص غراس الغافلين قصةُ جمعِ صحيحِ الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله تعالى ورضي عنه- ؛ إذ جاء عنه أنه " كان يومًا في مجلسِ الإمامِ إسحاق بن راهويه -رحمه الله- ؛ فقال إسحاق: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فوقع هذا القول في قلب البخاري ؛ فأخذ في جمع صحيحه " .. فانظر إلى هذه البذرةِ التي ألقاها إسحاقُ -رحمه الله- كيف غرست في صدر البخاري ؛ فأنبتت وأثمرت -وأَطيِبْ بثمرِها المبارك- وآتتْ أُكُلَها أضعافًا ، ولا يزال الناسُ ينالون مِن بركاتها ويجتمعون على موائدها ؛ أَفَلَا يدعوك هذا إلى أنْ تَنثُرَ مِن بين شفتَيك النصائحَ ، وتأمرَ هذا بالخيرِ ، وتَنهى ذاك عن الشرِّ ؛ عسىٰ أنْ تُصادفَ أرضًا طيِّبةً تُنبِتُ وتُثمر ؛ فيكون لك أجرُها وأجرُ مَن انتفع بها ؟! ..

ومنها ما روي أن سيبويه قصد مجلس حَمَّاد بن سلمة -رحمه الله- ؛ فكان يستملي عليه سيبويه حديثا جاء فيه: قال صلى الله عليه وسلم: « ليس من أصحابي أحد إلا لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدَّرداء » ، فقال سيبويه: « ليس أبو الدَّرداء » ـ ظنّه اسمَ ليس- ؛ فصاح به حمَّاد: لحنت يا سيبويه ، ليس هذا حيث ذهبتَ ؛ إنما هو استثناء  فقال سيبويه: لا جَرَم ، والله لأطلبنَّ علمًا لا تُلَحِّنَنِّي فيه أبدًا ..

فكانت توبيخةُ الإمامِ حماد بن سلمة -وما أجملَ توبيخَ الكبارِ لطلّابِهم- سببًا لِنبوغِ سيبويه إمامِ النحْوِيِّين الذي ما جاء بعده مثله وكان المنتهىٰ في هذا الفن ؛ فهذه التوبيخةُ مِن المعلِّم الناصحِ المشفقِ كانت بذرةً وقعتْ موقعَها ؛ فأثمرتْ ..

ومِن غراسِ الغافلين غراسُ والدي عيسى بن أحمد العمادي -حفظه الله- الذي غرسَ في نفْسِ ابنِه حُبَّ الكتبِ والقراءةِ بفعلِه لا بقوله ؛ فكان يَضعُ مكتبةً صغيرةً في صالة البيتِ ، وكان لا يقطعُ عنه المجلات القصصية الأسبوعية ؛ فأثمرَ هذا الفعلُ في قلبِه ؛ فكانت هذه المكتبة الصغيرةُ تناديه وتدعوه حتى وقع في حبِّها وما تخلَّصَ منها ؛ بل نَمَتْ في قلبه وشَبَّ على حبِّها والتزود منها ..

وفي التاريخ من هذا الباب كثيرٌ ، وإنما ذكرت نماذج تستدعي في ذهنك سِواها وترشدُك إلى النظرِ في مثلِ محتواها ؛ لتدفعَك إلى بذلِ النصيحةِ بصدقِ نيةٍ ؛ لعلها تكون سببًا في خيرٍ عظيمٌ لا يخطر ببالٍ ..

وأما غفلاتُ الفاسقين فغراسُها شرُّ غراسِ الغافلين عن ذكر الله ؛ فهي غراسٌ عاقبتُه الندامة والخسران ، وهي التي تُنبِتُ شجرةً كشجرة الزقوم ، تُحمِّلُ صاحبَها وِزرَه ووزرَ مَن عملَ بدعوتِه ، وإمامُها إبليسُ الذي هو إمام الغافلين ؛ فاحذر من كلمةٍ أو فعلةٍ يَتبعُك فيها الخلائقُ فتُردِيك .. وإن أيّامَنا أيامٌ سهُلَ فيها اجتلابُ الآثامِ على النفوسِ ؛ فما هي إلا ضغطةٌ واحدةٌ تُضِلُ بها خلائقَ ممن يستمع إليك ويُتابعُ منشوراتك وأنت غافلٌ عن ذلك .. أعاذنا اللهُ وإياكم مِن الغفلةِ عن ذكر الله ، وجعل غفلاتِنا كغفلاتِ الصالحين المحسنين ..

كتبه: عدنان بن عيسى العمادي -غفر الله له ولوالديه والمسلمين- ..

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة