تقلُّباتُ النفوسِ وتطهيرُها ..



لا يزال المرء في صراعٍ مع نفسه بتقلُّباتها التي بيَّنَها ربُّنا سبحانه في كتابه العظيم؛ فهذه النفسُ الأمارةُ بالسوء: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]، وهي نفسُها التي أهلَكتْ أحدَ ابنَي آدم عليه السلام؛ إذ طوَّعت له الشرور: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]، وهي التي تلوم صاحبَها بعد ركوبِه الجهالةَ؛ فتُكثِرُ لَومَه: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، وهي التي ندَّمَتِ الهالكَ مِن ابنَي آدم: ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31]، وهي التي تَطمَئنُّ بالإيمان: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ [الفجر: 27، 28].

هذه النفسُ تحملُ الشرورَ وتحملُ الخيرَ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعلِّمنا التعوُّذَ مِن شرورِ أنفسنا في خطبةِ الحاجة التي يبتدئُ بها كلَّ شأن: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا»، وكذا علَّمَنَا ذلك في أذكار الصباح والمساء والنوم في قوله: «أعوذ بك من شر نفسي وشرِّ الشيطان وشركه»، وجاء من دعائه كما رُوِّينا في مسند أحمد: «اللهم اغفِر لي ذنبي، وخطئي وعمدي، اللهم إني أستهديك لأَرْشَدِ أمري، وأعوذ بك من شر نفسي».

وللمرءِ يدٌ في تَقلُّبِ بعضِ أحوالِها؛ فهو الذي يقودُها حيث يشاءُ بما أعطاه اللهُ تعالى مِن التخيير؛ فإن كان يريدُ بها خيرًا قادَها إلى مواطِنِ الصلاحِ وبِقاعِ الطهارةِ، وقامَ بما يُصلِحها ويُهذِّبها من العادات والأخلاق، ومن هذا الباب بابُ الهجرةِ مِن ديار الكفر والمعصية إلى ديار الإسلام والطاعة؛ فإن ديارَ الكفرِ موطنُ نجاسةٌ، والمشركون نجسٌ كما أخبرَنا ربُّنا عز وجل في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ [التوبة: 28]، والنفسُ تتَشرَّبُ ما يحيطُ بها؛ فلذا شرع اللهُ الهجرةَ؛ حتى لا تتلوث النفوسُ بخبث الشِّرك، وديارُ الإسلام هي الديار التي تتطهَّرُ بقدرِ إيمانها وإظهارِها شعائرَ دِينها؛ فبقدر طهارةِ هذه الديار تطهرُ النفوسُ بالإيمان، ولذا كان مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في زمن النبوة أنقى مجتمعٍ في الإسلامِ؛ لأن نفوسَ أهلِه طهُرت باجتنابِها بقاعَ الفساد، وإقامةِ الشريعة للعباد، فإذا تَخَلَّتْ ديارُ الإسلام عن إظهار شِعارِ الدين؛ خبُثت النفوسُ بقدر تَخلِّيها عن الدين، والله المستعان

ومن هذا الباب جاءت والله أعلم مشروعية الاعتكاف وملازمة المساجد؛ لأنها خيرُ البقاع التي لا يخالطها شرٌّ ولا فساد، ومنها ما جاء مِن إباحة شدِّ الرحال إلى المساجد الثلاثة: المسجدِ الحرامِ، ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمسجد الأقصى؛ فإنها أطهر البقاعِ من بيوت الله عز وجل، ويحصُل فيها من تقويم النفوسِ وتهذيبِها ما الله به عليم.

ومما يطهِّرُ النفوسَ:
الصحبةُ الصالحة الناصحة المشفقة؛ فإن مالتِ النفسُ إلى الشرِّ أعادتها الصحبةُ إلى الخير وذكَّرتْها بالله عز وجل؛ فلذا حضَّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على الجليس الصالح، وضربَ فيه وفي نقيضِه مثلًا؛ إذ قال كما رُوِّينا في الصحيح: «مَثَلُ الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكِير الحداد؛ لا يَعدمُك مِن صاحبِ المسكِ؛ إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكيرُ الحداد يُحرق بَدنَك أو ثوبَك، أو تجد منه ريحًا خبيثة».

ومِن باب الجليس الصالحِ:
مَجالسُ الذكر والحديث التي تقام في المساجد؛ فهي محل نزول الرحمات والسكينة؛ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيتهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمن عنده».

ومما يُقَوِّمُ النفسَ ويُسَكِّنُها:
تلاوةُ القرآن العظيم والتدبرُ في آياتِه، وذكرُ اللهِ عمومًا، وقد قال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]، وخشوعُ النفسِ تهذيبٌ لها وأثرٌ مِن آثارِ ذكر الله عز وجل.

هذه لَفتة، وإلا فإن مطهِّراتِ النفوسِ أكثرُ من هذا، ولكنَّ هذا بابٌ يسلك به السالِك إلى غيره من الأبواب، والحمد لله ربِّ العالمين.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/131481/#ixzz5a97mU6b3

تعليقات

المشاركات الشائعة