حقائقُ حُبِّيَّةٌ وشَقائقُ نفْسِيَّة! ..


قالت: ‏" ‎مجرد أبيات فحواها ينافي الحب الصادق والكرامة الإنسانية، جميلة في صياغتها، ولكن لا اتفق مع معناها بتاتاً " .. وقال: ‏" ‎مذلة للنفس " تذييلًا على أبياتٍ كتبتها أقول فيها:

تقول: لَأَنتَ عندي مُستفِزٌّ
وأَكرَهُ كلَّ شيءٍ منك يَاتِي

فأسمعُ: أنتَ يا روحِي بعيدٌ
وقُربُك غايَتِي في أُمنياتِي

وأَسمَعُ كلَّ شَتمٍ قولَ حُبٍّ
وأَفهمُها تقولُ: أَيَا حياتِي! ..

لا بُدَّ للكاتب أن يتوقعَ المخالفةَ والمعارضة ، لا بد له إن نوى الكتابةَ أن يصبر على مخالفاتِ الناس له .. وهنا أمور لا بد أن يفهمها القارئ قبلَ أن يقرأ كلامَ الأدباء وأشباههم ، وكلام العلماء وطلابِهم : لا تَحمِلَنَّ كلَّ ما تقرأ على السذاجة وعلى محض الظاهر .. لا تُسارع إلى الاستدراك قبلَ أن تعرف خلفيات الكلام المكتوب ووجهَه الصحيح .. لا تَظُننَّ أن الكتّابَ حين يكتبون والشعراء حين يشعرون يُلقون حروفهم بهذه السطحية دون فكرةٍ عميقة ، دون أساس متين بنوا عليه فكرتَهم وأسسوا عليه مقالتهم ، لا تأتِهم باستدراكاتٍ هَضَمُوها وعرفوها وقرأوها قبل أن تُخلَقَ أنت ، لا تأتهم بنصائح فهموها وتأملوها قبل كلِّ مكتوبٍ وعلِموا ما سيكون من إشكالاتٍ عند القراء .. إذا عزمت على الاستدراك ؛ فقدِّمْه في صورة استفسار واستفصال ، قدِّمه في صورة سؤال أو اقتراح .. لا تقذف بالكلام جازما ، لا تُلقِه دون تأمل ، لا تحسبن أن محادثَك ساذجٌ -وإن كان ساذجًا حقيقة- ولكن عامل الكلام معاملةً حسَنَة إذا كان مكتوبا في قالبٍ حسَنٍ ؛ فمظهرُ الكلام بابٌ إلى مَخبَرِ المتكلمِ يُنبِيك عن مخزونه ومضمونه .. اِفهَمْ أن المتكلم لا يكتب دائمًا عن خواطر نفسِه ؛ بل قد يعيش همومَ مَن حوله وهمومَ مجتمعه ؛ فيَلبِس رداءَهم ويتكلم بلسانهم ، يضع نفسه مكان صاحبِه ويعبّرُ عن ضميره ، يتخلل روحَ إخوانِه ؛ فينطقُ بما شاهدَ في نفوسِهم .. نفسُه أنفُسٌ كثيرةٌ يتكلم كلَّ حينٍ تعبيرًا عن بعضِها ؛ لذا تجد في كلامه المفارَقات ؛ تجده منتقِلًا مِن كلامٍ عذبٍ رقيق إلى هجومٍ مندفعٍ عنيف ، ومِن غزل إلى فكرٍ ، مِن أحاديث شريعية إلى خواطر نفسية ، مِن عبثٍ ولهوٍ إلى وعظٍ وتذكرة ... كلُّ ذلك يكون في النفسِ الواحدةِ باختلاف أحوالِها ومُجالسِها ؛ فكيف بمن يحمل بين جنبيه أنفسَ أهلِه وأصحابه وأحبابِه ومَن مرَّ مِن عنده مرورًا عابرًا ؟! ؛ إن هذه المفارقات ليست بمستنكرةٍ إذن ؛ إنما المستنكَرُ أنْ لا تتأثرَ النفسُ بشيءٍ ولا يمازِجها مِن روحِ إخوانها وخُلّانها شيءٌ ، الغريبُ أن تَتَنَمَّطَ النفسُ نمطًا واحدًا لا يستحيل ولا يتبدلُ في كل وقت مع كل أحد على اختلاف المؤثرات ؛ فهذه ليست بنفسٍ حيّةٍ ؛ إنما هي جمادٌ وحجارة! ...

هذه استطراداتُ سقيمٍ يُحبُّ الكلامَ إذا سقم ، - وهو في العادةِ قليلُ الكلامِ كثيرُ الكتابةِ! - ؛ فلا تعجلوا عليه ولا تناقشوه في شيء الآن ، دعوه حتى ينهي ما أراد ابتداءه ، دعوه يفصح ويشرح ويتنقل بين أفكارِه وإن لم يكن بينها ارتباط .. ما يمنعكم من ذلك ، وقد آثرتُم القراءةَ له أولَ مرة ، وسمحتم أنْ تقتطعوا من أوقاتِكم نصيبًا لتقرأوا ما يكتب ؟! ...

أعود لأمر الأبيات التي كتبتُ ، وإلى التعليقات التي جاءت .. نعم جاءت الإطراءات ، وهي تمرُّ على النفسِ مرورًا تُسَرُّ في أولِه ثم تذكر أن عادةَ الناسِ الثناء والتعاطفُ مع كلمات الحب وأهلِه .. ويتذكر أن ثناءَ الناسِ يدخل في المجاملة أحيانًا ، أو يكون ممن لا قيمةَ لذوقِه فنيًّا ومعرفيًّا .. ويَبقى ثِقَلُ النقدِ السلبي على النفسِ ، وإن كان المرءُ قد يوقِنُ صدورَه ارتجالًا مِن غيرِ أهلِه ، مِن غيرِ ذي شأن ، أو قُل: ممن نجهل قيمةَ ذوقِه وشأنِه فنيًّا ومعرفيًّا ، حتى لا نظلم قارئًا أو لا نهيجَ انتقادًا! ...


وتوطئةً أقولُ: إن الكلامَ في الحبِّ إنْ لم يكن نافعًا مفيدًا عند كثيرٍ مِن الناسِ ؛ فهو نافعٌ مفيدٌ لبعضهم .. ثم هو ليس مما يُبتغى ببيانِه الثوابُ والأجرُ ، وإنما هو حديثٌ من حديثِ الناسِ الذي يتكلمون به ، وغايةُ ما هنالك أن يكون كلامًا مباحًا إن شاء الله لا إثم فيه ، وأنا بالحديث فيه وشرحِ بعضِ موضوعاتِه مسبوقٌ بأئمةٍ أعلامٍ مِن أعلام الدين والتقوى والورع كأبي بكر محمد بن داوود الظاهري ، وأبي محمد ابن حزم الأندلسي ، ، وأبي حامد الغزالي ، وأبي عبد الله ابن القيم -رحم اللهُ جميعَهم- ؛ فهم على ما كانوا عليه من الديانة والورع فيما نحسب : ما اجتنبوا الكلامَ في بعض تفاصيلِ الحبِّ المباحةِ التي لا يُرتجى من ورائها الثواب ، ولا يخشى منها العقاب إن شاء الله تعالى ؛ فكيف بمثلي ممن لا يبلغ عِشرَ مِعشارهم في التقوى والورع والديانة ؟! ...

ثم اعلموا أن ما جاء في أبياتي ليس نسجَ خيالٍ ولا هو من الأوهام ، ولا هو محمولٌ على ما فهِمَه مَن فهِمَ مِن مذلةِ النفسِ للمحبوبِ ، ولا منافاةٍ لكرامة الإنسان ، ولا معارضةٍ للحبِّ الصادق ؛ بل هو مِن أَعَالِيه وأرفعه ومِن تَجلِّياتِه وصُلبه! .. وهو حِشمةٌ تكون بين الأحباب مع إسقاط الكلفة في آنٍ واحد! .. ولسنا هنا بصدد ذكرِ حكم الشرعِ المعلوم في أمر تعاملُ المحبين والحدود بينهم ؛ إنما هو كلام عن واقعٍ حاصلٍ عَلِمتُه مِن أمرِ بعضِهم مع بعضِ أحبابِ قلبِه ، ولولا أنّ المرءَ يحبُ سَتْرَ الناسِ ويَربأ عن فضحهم وتشويه ذِكرِهم ؛ لصرَّحْتُ بأسماءِ هؤلاءِ الذين عرفتُ مِن حالهم ما عرفتُ ، وذكرتُ من أمرهم ما ذكرتُ ، الذين قد لا يُخفي عليَّ بعضُهم مِن أمرِه شيئا ، ولا يَنأى عن الاستنصاح في شأنه وحاله على ما كان منه من تفريطٍ ؛ فإنْ كنت لا أسمِّي أحدًا ؛ فهذا هو الواجبُ ...

أنا هنا لا أتكلم في مثالياتٍ ونظرياتٍ ، بل أتكلم عن واقع معلوم مشاهد لدى الجميع ؛ فلا تَعيبوا عليَّ لو تَكلَّمْتُ بسذاجةِ العامةِ ، وبسردِ بعضِ حالِهم في كلامهم وتعاملهم ..

أنت ترى وتسمع مَن تلاشَتْ بينهم الحُجُبُ ، وسَقطَتْ عنهم الحواجز ، وكانوا من المقربين الأصفياء : لا يتورعون عن شتم وسب أصحابِهم بشتماتٍ لا يرونها كبيرةً ؛ فترى الرجل يقول لصاحبِه أو أخيه: يا حيوان ، يا حمار ، يا قبيح ... ثم لا يجد الأخُ على أخيه ولا الصاحبُ على صاحبِه في نفسه شيئا من مثل هذه الكلمات التي لو صدرت من غريبٍ ؛ لَعدَّها إهانةً عظمى وسوءَ أدبٍ ، ولربما ضاربَ قائلَها وخاصمَه .. ولكنها حين جاءتْ ممن انعقد القلبُ على حبِّه ؛ هانتْ وتقبلَها القلبُ دون نكيرٍ ، بل ربما قالها له وهو يعانقه أو يضمه إليه! .. ولا أعرف أحدا في الناسِ يعُدُّ مثلَ ذلك من مذلة النفس ، ولا معارضة الكرامة الإنسانية ، ولا يرونها بالمظهر القبيح ، وإن كانت في حقيقة الأمر قبيحة ..

هذا بين الإخوة والأصحاب ؛ فكيف الأمر لو كان بين ذكر وأنثى ، لازمٌ عليهما أن يُوجِدا بينهما الحدودَ والحُجُبَ ، أن لا تخضع الأنثى بالقول ، أن تصون كرامتها وشرفها ، أن لا تُظهر التَّمَاوُتَ على محبها ؛ فهكذا النساء .. ولا يحب الرجل الأنثى المتماوتة التي ما إن يُبدِي لها مِن صفحةِ حبِّه شيئا جاءتْه راكضةً وأبدت له مشاعرها ؛ إنما تَكبر في عينه تلك الشامخة التي لا تخضع لكلمة أو كلمتين ، التي تصون نفسها عن التبذل ؛ فتظهر لحفظِ نفسِها خلافَ ما تبطن ، وتضع بينها وبين محبها الحواجزَ بشديد الكلمات وقاسيها حتى لا تكون ممن يخضعن بالقول ... وهذا الفعل هو الذي يفهمه المحب حقًّا ، بل يُكبره في الأنثى -إن كان طاهرَ القلبِ صادقَ الحب- إذ صانت نفسها عن التبذل وترفعت عن السوء ... هنا يَفهم المحبُّ منها أنها تحبه ولكنها تحفظ حبها لها بحفظ نفسها ؛ فهل هناك أجمل من هذا وأحلى ؟! .. فإنْ أَلَانَ لها من القولِ ؛ جابهته بكلمة قاسية تمنعه أن يجاوز حدود الأخلاق والحشمة .. وهذا الفعل سوى ما قرأناه عن بعض الكريمات الطاهرات في التاريخ : فإننا نعلمه ونشاهده من بعضهن كما قلتُ .. ومَن سُقتُ فيها وفي صاحبها الأبيات قد جرى بينهما بعضُ ما ذكرتُ في الأبيات ، وإنّ صاحبها يَعجب منها فيقول لي: ما نسيت نفسي وانطلقت معها بكلام يُحببها إليَّ وفيه من اللين ما فيه إلا وسَدَّتْ في وجهيَ البابَ وأعادتني حيث ابتدأنا ، وفي كل مرة كأنني أتعرف إليها أول مرة ، وإني لأعلم يقينا أنّ في قلبها مثلَ ما في قلبي -إن لم يكن أكثر- ، ولكنها تتصبرُ ، وإني لَأَعجبُ مِن طولِ صبرِها وحُسن رويَّتِها ، وهي لو علِمَتْ أني أريدُ حراما أو قصدتها بسوء ؛ لأقامت الدنيا ولاستطاعت مَضَرَّتِي بأيسر ما تريد ، ولكنها تعلم نقاءَ ما في قلبي ، وتذكِّرُني بخطإِ فعلِنا مرة بعدَ مرة تصريحا وتلميحا ، وإن كانت كثيرا ما تُبادِئُني الحديثَ وتنتظرني بتشوُّقٍ ولهفة ؛ يَظهر ذلك في فلتاتِ لسانِها وأنتزِعُه انتزاعا من بين كلماتِها المجملةِ حمالةِ الوجوهِ ... هكذا قال وزاد غيرَه ..

فهل بعد ذلك يقال: إن تقبُّلَ المحبِّ من محبوبتِه حواجزَ العفافِ وأستارَ الطهارةِ مِن قاسي الكلماتِ التي تُخالِفُ حُلوَ باطِنِها ولطافةَ فؤادِها : مذلةُ نفسٍ تنافي الكرامةَ الإنسانيةَ ؟! .. لا وربي بل هي عينُ عزةِ النفسِ وعينُ الكرامة الإنسانية ؛ فلا أكرم من أن تحفظ المرأةُ عِرضَها وتصون عفافَها بكلمات قارِصاتٍ تَحجبُ بها محبَّها عن الاسترسالِ في كلامٍ يُذيبُ الحُجُبَ بينهما ، إنما هي بذلك تصون نفسَها وتصونُ صاحبَها عن الخنا ، وهي كما قيل في المثل العامي المشهور: سبُّ الحبيبِ كأكل الزبيب! ، وإلى لقاءٍ ..

تعليقات

المشاركات الشائعة