أحاديثُ قصيدة: وطاوي ثلاثٍ ..




 مِن القصائد التي لا أنساها مما درسناه في الأول الثانوي : القصيدةُ المنسوبة للحُطَيئة ، التي مَطلعُها:

وطاوِي ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مُرمِلٍ
ببيداء لم يَعرف بها ساكنٌ رسمَا ..

وهي تصوِّرُ جُودَ العربي البدويِّ رغمَ حاجتِه وقلةِ ذاتِ يدِه ، كانت تُريني حين أقرأها أني أعيشُ معهم في خِباءٍ سقفُه السماء ..

‏يقول شاعرُها:

وطاوي ثلاثٍ عاصبِ البطن مرملٍ
ببيداءَ لم يَعرفْ بها ساكنٌ رَسْمَا
أخي جَفوةٍ فيه مِن الإنسِ وحشةٌ
يرى البؤسَ فيها مِن شراسته نُعمى ...



هو فقيرٌ جائع منذ ثلاثٍ ، رابطٌ بطنَه من شدة جوعه ، يسكُنُ صحراءَ تيهٍ لا أثر للديار فيها ، يستوحش الناسَ ، شديدُ البؤس حتى ظَنَّ أنّ بؤسَه أقصى النعيم! ..

‏ثم يقول في قصيدته:

رأى شبحًا وسْطَ الظلامِ ؛ فراعهُ
فلما رأى ضيفًا ؛ تَشَمَّرَ واهتمَّا
فقال: هَيَا ربّاه ضيفٌ ولا قِرًى
بحقِّك لا تَحرِمْه تا الليةَ اللحما ..

ترَوَّعَ مِن القادم إذ خَفِيَتْ حالُه ، حتى عَلِمَ أنه ضيفٌ ؛ ففزِعَ للقيام بحقه ، ودعا ربَّه أن يرزقَه أحسنَ الطعامِ لِضَيفه ، لا له ، على شدة فقره وجوعِه ، هو لا يملك حتى البُّر ..




‏ثم قال:

فقال ابنُه -لما رآه بِحَيرةٍ-:
أيا أبتِ اذبحني ؛ ويسِّرْ له طُعمَا
ولا تعتذرْ بالعُدمِ ؛ علَّ الذي طَرَا
يَظنُّ لنا مالًا ؛ فيوسِعُنا ذَمَّا
فروَّى قليلًا ، ثم أَحجمَ برهةً ،
وإنْ هو لم يذبحْ فتاهُ فقد هَمَّا ..

‏الأبناء مَجْبَنَةٌ مَبْخَلة ، ولكن هذا الابنَ الجوادَ يريدُ نَفْيَ الجبنِ والبخلِ عن أبيه ؛ فهو يجود بنفسه لأجل ضيفِ أبيه ؛ حتى لا تَذُمَّه العربُ ، حتى لا يُظَنَّ به السوء ؛ فيقول: لا تعتذر بفقرنا يا أبتِ ، اذبحني وأطعمْ ضيفَنا لحمي ، والأبُ يتفكّر في رأيِ ابنِه ويتردد ويهمُّ بأن يجودَ بولده لضيفه ، ‏ولكنَّ اللهَ تعالى استجاب دعاءَ عبدِه المضطر حين دعاه ؛ فسخّرَ له ما يُكرِمُ به ضيفَه ؛ ففَجَأْهُ سِربُ الحمرِ الوحشية الذي ساقه اللهُ إليه ؛ حتى يبذل السببَ فيصطاد للأضياف حاجتَه :

فبَينَا هُما عنَّتْ على البُعد عانةٌ
قد انتظمتْ مِن خلْفِ مِسْحَلِها نَظمَا
عِطاشًا تريد الماءَ ؛ فانْسابَ نحوَها
على أنه منها إلى دَمِها أَظْما! .. 



مرَّتْ هذه الحمر الوحشيةُ العطاشُ التي تبغي النجاةَ مِن هذه التَّيهاءِ التي تقطعها ؛ فسار إلى ناحيتها في سرعةٍ وخفاءٍ ، هي عطشىٰ ، والرجلُ أعطشُ منها ، هي تريد الماءَ ، وهو يريد اللحمَ والدماء! ، يريد طعامًا ما ذاقَ مثلَه منذ أَمَدٍ مَدِيد ..

‏قال:

فأَمْهَلَها حتى تَرَوَّتْ عِطاشُها ؛
فأرسلَ فيها مِن كِنانته سَهمَا
فخرَّتْ نَخُوصٌ ذاتُ جحشٍ سمينةٌ
قد اكتنزتْ لحمًا وقد طُبِّقتَ شَحما
فيا بِشْرَه إذ جرّها نحوَ ضيفِهِ
ويا بِشرَهم لمّا رأوا كَلْمَها يَدْمىٰ
وباتَوا كرامًا قد قَضوا حقَّ ضَيفِهم
وما غرِمُوا غُرما ، وقد غنموا غُنما ..



‏ووصفُه أنثى حمارِ الوحش إذ أصيبتْ ووجَبَتْ بلحمِها المُكْتَنزِ وشحمِها المُطبِقِ الكثير : وصفٌ يسيل اللعابَ ، ويُجيعُ الشبعان! ، ويُشبِعُك بِشرًا وفرحًا وهو ليس لك ، والأفراحُ مُعدِية! .. وقوله: ويا بشرهم لما رأوا كَلْمَها يَدمىٰ ، يذكرني يقولهم: مصائبُ قومٍ عند قوم فوائدُ ؛ فجُرْحُها الدامي كانَ سعادةً لا تُوصَفُ بالنسبة إليه ..

وتأمَّل الرفقَ بالحيوان وأدبَ الصيدِ ؛ إذ لم يَفْجأْ ولم يُرِعِ السربَ قبل قضائِه لُبانَتَه مِن الماء ؛ فلو هجمَ عليها لارتاعت وتركتِ الماءَ ولَرَّبمَا هلَكتْ عَطَشًا ، ولكن تَرَيَّث -مع شديدِ حاجتِه وتَلَهُّفِه- حتى ارْتَوَتْ وهَمَّتْ بِالمسير ... والقصيدةُ جميلةٌ أعمقُ من وصفي السطحي لبعضها ..

‏وإليكم القصيدة كاملة ، عيشوا فيها معهم ، واستمتعوا برحلة الصيد ، وكلوا مِن طيّبِ طعامهم هنيئًا مريئا ..

وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ
بِتيهاءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ
يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزائَها
ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
رَأى شَبَحًا وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ
فَلَمّا بَدا ضَيفًا تَشَمَّرَ وَاهْتَمَّا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ:
أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا
يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً
وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ
قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشًا تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها
عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها
فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ
قَدِ اِكتَنَزَت لَحمًا وَقَد طُبِّقَت شَحما
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ
وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلْمَها يَدمى
فَباتَوا كِرامًا قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم
فَلَم يَغرِموا غُرمًا وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَبًا
لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا ..

تعليقات

المشاركات الشائعة