ما كتبتُ عن الفراغ ..
يقول عمرو بن معدي كرب: " إنْ يَكنِ الشغلُ مَجْهَدَةً ؛ فإن الفراغ مَفسدة! " ، وقال: " أحذّركم عاقبةَ الفراغ ؛ فإنه أجمعُ لأبواب المكروه من الشغل " ..
وقال الشاعر:
لَقَدْ أَهَاجَ الْفَرَاغُ عَلَيْك شُغْلًا
وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ ..
وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ ..
والفراغُ مِن أسباب استِجلابِ مرضِ العشق ؛ قال مسكويه: " العشقُ مَبدأُه النظرُ ، مع الفراغِ والبَطالة " ..
ومِن الفراغِ ما يستجلِبُ التسلُّطَ على الآخرين ، قال بعضهم: " مِن الفراغِ ما يجعل المرءَ متسلطًا تسلطًا لا يُطاق ، مستبدًا استبدادًا أحمقَ لا يُحتمل " ، قلت: ولك في المتقاعِدِين شواهد! ..
ولا تَجتمعُ الهمومُ والغمومُ ولا يَسترسلُ العقلُ في سَيِّءِ الأفكارِ إلا مع الفراغِ ، والمَشغولُ لا يُشْغَلُ بهذه الأمورِ ، ولا تَجِدُ لِنَفْسِها عنده مكانًا ؛ فأشغِلْ نفْسَك ولا تَعِشْ فارِغًا ..
وتسويفُ الأعمالِ إلى وقتِ الفراغِ = تأجيلٌ إلى وقتٍ مجهولٍ لا يأتي غالبًا ؛ لأن الإنسان في شغلٍ دائمٍ ، وتأتيه الأشغالُ مِن حيث لا يحتسب ، ثم إنه سيءٌ في استغلالِ وقتِ فراغِه إنْ جاء ؛ لِذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: « نِعمتانِ مَغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ » ..
ولا يُحَصَّلُ النجاحُ إلا بمزاحمةِ الأوقاتِ ، ومضايَقةِ الأعمالِ ، ومَن انتظرَ الفراغَ والراحةَ لِيُنجِزَ ؛ فلن يُفلِح! ..
والأحزانُ نَزَّاعةٌ إلى النفوسِ الخاليةِ ؛
والعملُ والاشتغالُ والبُعدُ عن الفراغِ والوحدةِ : كلُّ ذلك عَونٌ على طردِ الأحزانِ ؛ لأن النفسَ إذا لم تجد ما يُشغلُها أَشغَلَتْها الخواطرُ والأفكار ، والاستسرسالُ في الأفكار تقليبِ الحوادثِ في البال يَستدعِي الحزنَ والكآبة ..
والسآمةُ آفةُ سوءٍ تُداهِمُ الفارِغِين ؛ فلا تسمحْ للفراغِ أنْ يزورَك إلا لِمَامًا! ..
نعم نحتاج للفراغِ في التفكيرِ بحالِنا ومآلِنا وترتيبِ شؤونِنا ، وما زاد عن ذلك فإنه ضررٌ يبدأُ نقطةً ثم يصيرُ سيلًا ، وإنما السيلُ اجتماعُ النُّقَط! .. وسيلُ الفراغِ يَهْوِي بك في القاع ..
والفراغُ قد يكون مُستحكِمًا مِن ذاك الذي تراه يُفتِّتُ أوقاتَه في اللهو واللعب ؛ فهو وإن كان مشغولَ البدن فإنه فارغُ البال ، وفراغُ البالِ هو الفراغ الحقيقي ..
العقولُ المادية تستمتعُ لحظاتٍ ثم تعيش فراغًا ، والعقولُ العالية لا تجدُ وقتًا في غير الاكتشاف والمعارف ؛ فهي لا تتعطل ..
والفراغُ يضَيِّقُ مساحةَ الإنجاز ؛ ويقولون: إنّ المشغولَ أكثرُ إنجازًا مِن الفارِغِ ، وهذا صحيحٌ قطعًا ، وله دلائلُ مُقارِبةٌ ؛ كقولِ بعضِ السلف: مَن طالَ أَملُه ساءَ عمَلُه ..
والمرءُ إذا كان في فسحةٍ ؛ سَوَّفَ أعمالَه ، وإذا كان في ضيقٍ وله حدٌّ لا يسطيعُ مُجاوَزَتَه ؛ شمَّرَ واجتهدَ وانجزَ مُرادَه وزيادةً ..
وكنت أيامَ دراستي المدرسية والجامعية أكثرَ قراءةً أضعافَ ما أقرأُ اليوم وأنا تامُّ الفراغ ، وإنْ كانت قراءتي في السابق سرديةً ، واليومَ بأناةٍ ونظر حتى لو كان المقروء لا يستحقُّ الأناة فيه ، وصار البطءُ عادةً والإنجازُ أقل ، إلا أنّ فيه لذةَ تقليبِ المعلومةِ وإنضاجَها! ..
ويَعزم أحدُنا على قراءة الكتابِ الصغيرِ في فراغه ؛ فيُنهيهِ في شهرٍ وحقُّه المجلسُ الواحدُ ، ويعزمُ على قراءةِ الكتابِ الضخم في مجلسٍ علمٍ على أحدِ المختصين ؛ فيُنهي الكتابَ في أيام ، وحقُّه الشهرُ ، وذلك يدلُّ على أن الإنسان إذا جعلَ لعملِه نهايةً معلومةً لازمةً ؛ زادَ إنجازُه ، وهذا مُشاهَدٌ في الطلابِ أيامَ اختباراتِهم ؛ فإنهم يَأتُونَ على المقررِ كاملًا المرةَ والمرتين في اليوم واليومين ، وتجدهم في أيام دراستهم الطويلة لا يَمُرُّون على ربعِ هذا المقدارِ مع طولِ فراغهم ، بل يشقُّ عليهم وتضيقُ نفوسُهم به! ..
وأخيرًا أقول: المَلَلُ هو ابنُ الفراغِ المدللُ! ..
ودُمتم بوُدٍّ غيرَ فارِغِينَ ولا مهمومين .
ما شاء الله ، تبارك الرحمن ، الله لايحرمك الأجر والثواب و كلامك بماء الذهب و قد لا تعلم بمدى حاجة النفس البشرية لهذا الكلام فجزاك الله خير .
ردحذف